ونظير هذا قوله تعالى: ? وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ? (التوبة:59)؛ فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله، كما قال تعالى: ? وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ? (الحشر: من الآية7)، وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا: حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال تعالى: ? إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ?، ولم يقل: وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده، كما قال تعالى: ? فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ? (الشرح: 7 - 8).
فالرغبة، والتوكل، والإنابة، والحسب لله وحده، كما أن العبادة، والتقوى، والسجود لله وحده، والنذر والحلف لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى.
ونظير هذا قوله تعالى: ? أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ? (الزمر: من الآية36)، فالحسب: هو الكافي؛ فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده، فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية؟!
والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر ها هنا.) ([3])
الدراسة:
التقديرات التي ذكرها ابن القيم في كلامه السابق ترجع إلى معنيين، هما قولان في معنى الآية:
القول الأول: المعنى: يا أيها النبيّ حسبك اللهُ، وحسب من اتبعك من المؤمنين اللهُ. وهذا القول مروي عن ابن عباس ([4])، الشعبي ([5])، وابن زيد ([6])، ومقاتل ([7]). وهو قول الأكثرين.
القول الثاني: أن يكون المعنى: كفاك الله، وكفاك أتباعك من المؤمنين. وهذا القول منسوب إلى مجاهد ([8]).
وأكثر المفسرين على القول الأول، وهذا بيان لموقف بعضهم:
فسّر ابن جرير الآيةَ على القول الأول، وذكر الآثار التي تدل عليه، ثم ختم تفسيره للآية بذكر القول الثاني منسوباً إلى بعض أهل العربية ([9])، ولم يعلق عليه بشيء. ([10])
وذكر ابن عطية القولين في تفسير الآية، وبيّن وجه كل قول من جهة الإعراب، ولم يذكر ترجيحاً، أو اختياراً. ([11])
وكذلك الرازي؛ ذكر القولين، ونقل تعليق الفراء على كل قول منهما. وذكر أن مما ينصر القول الأول: أن من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله أو ينقص بسبب نصرة غير الله.
ولعله يعني أن من كان الله ناصره، وحسبه؛ فليس بحاجة إلى كفاية غيره.
ثم قال: (ويمكن أن يجاب عنه بأن الكل من الله، إلا أن من أنواع النصرة ما لا يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة، ومنها ما يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة. فلهذا الفرق اعتبر نصرة المؤمنين.) ([12])
وكذلك القرطبي؛ ذكر القولين، وزاد نسبة القول الثاني للحسن، ونقل كلام النحاس في إعراب القرآن، واختياره للقول الثاني. ([13])
ووافق أبو حيان الفراء، والنحاس في اختيار القول الثاني، وذكر أنه هو الظاهر. ثم ذكر القول الآخر، ولم يحكم على معناه بشيء، ولكنه أطال في التعليق عليه من جهة التوجيه النحوي. ([14])
واكتفى ابن كثير بإيراد أثر الشعبي الذي أخرجه ابن أبي حاتم، غير أن كلامه الذي فسّر به الآية مبني على القول الأول. ([15])
واختار ابن عاشور القول الثاني، وذكر ما يحسن نقله هنا؛ قال: (فإنّه لمّا أخبره بأنّه حَسبه وكافيه، وبيّن ذلك بأنّه أيّده بنصره فيما مضى وبالمؤمنين، فقد صار للمؤمنين حظّ في كفاية الله تعالى رسوله U ؛ فلا جرم أنتج ذلك أنّ حسبه الله والمؤمنون، فكانت جملة: ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ? كالفذلكة ([16]) للجملة التي قبلها.
وتخصيص النبي بهذه الكفاية لتشريف مقامه بأنّ الله يكفي الأمّة لأجله ...
وفي عطف المؤمنين على اسم الجلالة هنا: تنويه بشأن كفاية الله النبي r بهم، إلاّ أنّ الكفاية مختلفة ....
وقيل يُجعل ? وَمَنِ اتَّبَعَكَ ? مفعولاً معه لقوله: ? حَسْبَكَ ? بناء على قول البصريين إنّه لا يعطف على الضمير المجرور اسم ظاهر، أو يجعل معطوفاً على رأي الكوفيين المجوّزين لمثل هذا العطف.
وعلى هذا التقدير يكون التنويه بالمؤمنين في جعلهم مع النبي r في هذا التشريف. والتفسير الأول أولى، وأرشق.) ([17])
¥