وما تقول الفقهاء في زماننا إذا نزلت بهم من نوادر الأحكام نازلة لم تخطر على بال من كان قبلهم؟ أَوَ ما علمت أن لكل قلب خاطراً، ولكل خاطر نتيجةً؟ ولِمَهْ جاز أن يقال بعد أبي تمام مثل شعره، ولم يَجُزْ أن يؤلف مثل تأليفه؟
ولمه حجَّرت واسعاً، وَحَظَرتَ مباحاً، وحرمت حلالاً، وسددت طريقاً مسلوكاً؟
وهل حبيبٌ (1) إلا واحد من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم؟ ولمه جاز أن يعارض الفقهاء في مؤلفاتهم، وأهل النحو في مصنفاتهم، والنُّظَّار في موضوعاتهم، وأرباب الصناعات في جميع صناعاتهم، ولم يجز معارضة أبي تمام في كتاب شذَّ عنه في الأبواب التي شرعها فيه أمر لا يُدْرَكُ ولا يدرى قدره؟
ولو اقتصر الناس على كتب القدماء لضاع علم كثير، ولذهب أدب غزير، ولضلت أفهام ثاقبة، ولَكَلَّت أَلْسُنٌ لسِنَةٌ، ولما توشَّى أحد بالخطابة، ولا سلك شِعْباً من شعاب البلاغة، وَلَمَجَّتِ الأسماع كل مردود مكرر، ولَلَفظت القلوب كل مُرَجَّع مُمَضَّغ، وحتَّام لا يُسْأَم:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي (2)
وإلى متى: صَفَحْنا عن بني ذهل (3)
ولِمَه أنكرت على العِجْليِّ معروفاً؟ واعترفت لحمزة بن الحسين ما أنكره على أبي تمام في زعمه أن في كتابه تكريراً وتصحيفاً، وإيطاءً وإقواءً (4)، ونقلاً لأبيات عن أبوابها إلى أبوابٍ لا تليق بها، ولا تصلح لها إلى ما سوى ذلك من روايات مدخولة، وأمور عليلة؟ ولمه رضيت لنا بغير الرضى؟ وهلا حثثت على إثارةِ ما غَيَّبَتْهُ الدهور، وتجديد ما أخلقته الأيام، وتدوين ما نَتَجَتْهُ خواطرُ هذا الدهر، وأفكار هذا العصر، على أن ذلك لو رامه رائمٌ لأتعبه، ولو فعله لقرأت ما لم ينحط عن درجة مَنْ قَبْلَه: مِنْ جدٍّ يروعك، وهزل يروقك، واستنباط يعجبك، ومزاحٍ يلهيك.
وكان بقزوين رجل معروف بأبي حامد الضرير القزويني، حضر طعاماً وإلى جنبه رجل أكول، فأحس أبو حامد بجودة أكله فقال:
وصاحب لي بطنه كالهاوية ... كأن في أمعائه معاوية (5) فانظر إلى وجازة هذا اللفظ، وجودة وقوع الأمعاء إلى جنب معاوية، وهل ضر ذلك أن لم يقله حماد عَجْرَد وأبو الشمقمق؟ وهل في إثبات ذلك عارٌ على مثبته، وفي تدوينه وصمة على مدوِّنه؟
وبقزوين رجل يعرف بابن الرياشي القزويني، نظر إلى حاكم من حكامها من أهل طبرستان مقبلاً، عليه عمامةٌ سوداءُ وطيلسان أزرقُ، وقميصٌ شديدُ البياض، وخفٌّ أحمرُ، وهو مع ذلك كله قصير على بِرَذَون أبلقَ هزيلِ الخَلْق، طويل الحلق، فقال حين نظر إليه:
وحاكم جاء على أبلق ... كعقعقٍ جاء على لقلقِ
فلو شهدت هذا الحاكم على فرسه لشهدت للشاعر بصحة التشبيه، وجودة التمثيل، ولعلمت أنه لم يَقْصُرْ عن قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسهم ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فما تقول لهذا، وهل يحسن ظلمه في إنكار إحسانه، وجحود تجويده؟
وأنشدني الأستاذ أبو علي محمد بن أحمد بن الفضل، لرجل بشيراز يعرف بالهمذاني وهو اليوم حي يرزق، وقد عاتب (6) بعض كتابها على حضوره طعاماً مرض منه:
وُقِيتَ الردى وصروفَ العلل ... ولا عَرَفَتْ قدماك العلل
شكا المرض المجد لمَاَّ مَرِضْـ ... ـتَ فلما نهضت سليماً أبلّ
لك الذنب لا عتب إلا عليك ... لماذا أكلت طعام السِّفل
وأنشدني له في شاعر هو اليوم هناك يعرف بابن عمرو الأسدي، وقد رأيته فرأيت صفة وافقت الموصوف:
وأصفر اللون أزرق الحدقة ... في كل ما يدعيه غير ثقةْ
كأنه مالك الحزين إذا ... همَّ بزرق وقد لوى عنقهْ
إن قمت في هجوه بقافيةٍ ... فكل شعر أقوله صدقةْ
وأنشدني عبدالله بن شاذان القاري، ليوسف بن حمويه من أهل قزوين؛ ويعرف بابن المنادى:
إذا ما جئت أحمد مُسْتميحاً ... فلا يَغْرُرْكَ منظرُه الأنيقُ
له لطفٌ وليس لديه عرفٌ ... كبَارقةٍ تروقُ ولا تُريق
فما يَخْشى العدوُّ له وعيداً ... كما بالوعد لا يَثِقُ الصديقُ
ومدح رجلٌ بعض أمراء البصرة، ثم قال بعد ذلك _وقد رأى توانياً في أمره_ قصيدةً يقول فيها كأنه يجيب سائلاً:
جوَّدت شعرَك في الأميـ ... ـرِ فكيفَ أمْرُك قلتُ: فاترْ
فكيفَ تقول لهذا؟ ومن أي وجه تأتي فتظلمه؟ وبأي شيء تعانده فتدفعه عن الإيجاز والدلالة على المراد بأقصر لفظٍ وأوجز كلام؟ وأنت الذي أنشدتني:
سَدَّ الطريق على الزما ... نِ وقام في وجه القطوب
كما أنشدتني لبعض شُعراء الموصل:
¥