وقال ابن جرير عن تفسير (تمنى) بمعنى تلا: هذا القول أشبه بتأويل الكلام!
هذه خلاصة تلك الروايات في هذا الحديث الذي عرف بحديث الغرانيق. . وهو من ناحية السند واهي الأصل.
قال علماء الحديث: إنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة , ولا رواه بسند سليم متصل ثقة. وقال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي [صلى الله عليه وسلم] بإسناد متصل يجوز ذكره وهو من ناحية موضوعه يصادم أصلا من أصول العقيدة وهو عصمة النبي [صلى الله عليه وسلم] من أن يدس عليه الشيطان شيئا في تبليغ رسالته.
وهناك من النص ذاته ما يستبعد معه أن يكون أن يكون سبب نزول الآية شيئا كهذا , وأن يكون مدلوله حادثا مفردا وقع للرسول [صلى الله عليه وسلم] فالنص يقرر أن هذه القاعدة عامة في الرسالات كلها مع الرسل كلهم: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته , فينسخ الله ما يلقي الشيطان , ثم يحكم الله آياته). .
وقد أولع المستشرقون والطاعنون في هذا الدين بذلك الحديث , وأذاعوا به , وأثاروا حوله عجاجة من القول. والأمر في هذا كله لا يثبت للمناقشة , بل لا يصح أن يكون موضوعا للمناقشة. فلا بد أن يكون المقصود أمرا عاما يستند إلى صفة في الفطرة مشتركة بين الرسل جميعا , بوصفهم من البشر , مما لا يخالف العصمة المقررة للرسل.
وهذا ما نحاول بيانه بعون الله. والله أعلم بمراده , إنما نحن نفسر كلامه بقدر إدراكنا البشري. .
إن الرسل عندما يكلفون حمل الرسالة إلى الناس , يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة , وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتبعوه. . ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة والرسل بشر محدودو الأجل. وهم يحسون هذا ويعلمونه. فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق. . يودون مثلا لو هادنوا الناس فيما يعز على الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات فيسكتوا عنها مؤقتا لعل الناس أن يفيئوا إلى الهدى , فإذا دخلوا فيه أمكن صرفهم عن تلك الموروثات العزيزة! ويودون مثلا لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء استدراجهم إلى العقيدة , على أمل أن تتم فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المألوفة!
ويودون. ويودون. من مثل هذه الأماني والرغبات البشرية المتعلقة بنشر الدعوة وانتصارها. . ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة , وفق موازينها الدقيقة , ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فالكسب الحقيقي للدعوة في التقدير الإلهي الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم. . هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك الموازين , ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق. فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيل أن يثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف , وتبقى مثل الدعوة سليمة لا تخدش , مستقيمة لاعوج فيها ولا انحناء. .
ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية , وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات , فرصة للكيد للدعوة , وتحويلها عن قواعدها , والقاء الشبهات حولها في النفوس. . ولكن الله يحول دون كيد الشيطان , ويبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات , ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل , وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة. كما حدث في بعض تصرفات الرسول [صلى الله عليه وسلم] وفي بعض اتجاهاته , مما بين الله فيه بيانا في القرآن. .
بذلك يبطل الله كيد الشيطان , ويحكم الله آياته , فلا تبقى هنالك شبهة في الوجه الصواب:
(والله عليم حكيم). . فأما الذين في قلوبهم مرض من نفاق أو انحراف , والقاسية قلوبهم من الكفار المعاندين ; فيجدون في مثل هذه الأحوال مادة للجدل واللجاج والشقاق: (وإن الظالمين لفي شقاق بعيد). وأما الذين أوتوا العلم والمعرفة فتطمئن قلوبهم إلى بيان الله وحكمه الفاصل: وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. .
وفي حياة النبي [صلى الله عليه وسلم] وفي تاريخ الدعوة الإسلامية نجد أمثلة من هذا , تغنينا عن تأويل الكلام , الذي أشار إليه الإمام ابن جرير رحمه الله.
¥