قلت: خشيت من الإطالة، وأحلت على المصدر.
قال: ليس الجميع يستطيع الرجوع إلى المصدر فمن المستحسن أن تضع الرد.
قلت: حباً وكرامة والله من وراء القصد ............. وهذا رد الرافعي رحمه الله تعالى:
"هذا كل مقاله بحروفه بعد تخليصه من الركاكة والحشو وما لا طائل تحته، ونحن نستغفر الله ونستعينه ونقول قولنا، ولكنا نقدم بين يدي ذلك مسألة، فمن أين للكاتب أن كلمة: "القتل أنفى للقتل" مما صحت نسبته إلى عرب الجاهلية، وكيف له أن يثبت إسنادها إليهم وأن يوثق هذا الإسناد حتى يستقيم قوله: إن القرآن أقبل على آثار العرب؟ ...
أنا أقرر أن هذه الكلمة مولدة وضعت بعد نزول القرآن الكريم وأخذت من الآية، والتوليد بيِّن فيها، وأثر الصنعة ظاهر عليها؛ فعلى الكاتب أن يدفع هذا بما يثبت أنها مما صح نقله عن الجاهلية؛ ولقد جاء أبو تمام بأبدع وأبلغ من هذه الكلمة في قوله:
وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم،،،،،،،إن الدم المغبر يحرسه الدم
"الدم يحرسه الدم" هذه هي الصناعة وهذه هي البلاغة لا تلك، ومع هذا فكلمة الشاعر مولدة من الآية، يدل عليها البيت كله؛ وكأن أبا تمام لم يكن سمع قولهم: "القتل أنفى للقتل"، وأنا مستيقن أن الكلمة لم تكن وضعت إلى يومئذ*.
ولو أن متمثلًا أراد أن يتمثل بقول أبي تمام فانتزع منه هذا المثل الدم يحرسه الدم"، أيكون حتمًا من الحتم أن يقال له: كلا يا هذا فإن البيت سبع كلمات فلا يصح انتزاع المثل منه ولا بد من قراءة البيت بمصراعيه كما يقول كاتب الكوكب في الآية الكريمة ليزعم أنها لا تقابل الكلمة العربية في الإيجاز؟
إن الذي في معاني الآية القرآنية مما ينظر إلى معنى قولهم القتل أنفى للقتل كلمتان ليس غير، وهما "القصاص، حياة"؛ والمقابلة في المعاني المتمثلة إنما تكون بالألفاظ التي تؤدي هذه المعاني دون ما تعلقت به أو تعلق بها مما يصل المعنى بغيره أو يصل غيره به؛ إذ الموازنة بين معنيين لا تكون إلا في صناعة تركيبهما، ويخيل إلي أن الكاتب يريد أن يقول إن في باقي الآية الكريمة لغو وحشو، فهو حميلة على الكلمتين: القصاص حياة، يريد أن يقولها، ولكنه غص بها، وإلا فلماذا يلج في أنه لا بد في التمثل، أي لا بد في المقابلة، من رد الآية بألفاظها جميعًا؟
فإذا قيل: إنه لا يجوز أن يتغير الإعراب في الآية، ويجب أن يكون المثل منتزعًا منها على التلاوة، قلنا: فإن ما يقابل الكلمة منها حينئذ هو هذا، "في القصاص حياة"، وجملتها اثنا عشر حرفًا، مع أن الكلمة أربعة عشر، فالإيجاز عند المقابلة هو في الآية دون الكلمة.
وأما قوله تعالى: {أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، لو كان الكاتب من أولي الألباب لفهمها وعرف موقعها وحكمتها، وأن إعجاز الآية لا يتم إلا بها، إذ أريد أن تكون معجزة زمنية كما سنشير إليه، ولكن أني له وهو من الفن البياني على هذا البعد السحيق، لا يعلم أن آيات القرآن الكريم كالزمن في نسقها: ما فيه من شيء يظهره إلا ومن ورائه سر يحققه.
ثم إن الإيجاز في الكلمة العربية ليس من "الإيجاز الساحر" كما يصفه الكاتب، بل هو عندنا من الإيجاز الساقط؛ وليس من قبيل إيجاز الآية الكريمة ولا يتعلق به فضلًا عن أن يشبهه؛ إذ لا بد في فهم صيغة التفضيل من تقدير المفضل عليه، فيكون المعنى "القتل أكثر نفيًا للقتل من كذا"، فما هو هذا "الكذا" أيها الكاتب المتعثر؟
أليس تصور معنى العبارة وإحضاره في الذهن قد أسقطها ونزل بها إلى الكلام السوقي المبتذل وأوقع فيها الاختلال؟ وهل كانت إلا صناعة شعرية خيالية ملفقة كما أومأنا إلى ذلك آنفًا، حتى إذا أجريتها على منهجها من العربية رأيتها في طريقة هذا الكلام العربي الأمريكاني كقول القائل: "الفرح أعظم من الترح"، "الحياة هي التي تعطى للحياة" ... ؟
بهذا الرد الموجز بطلت الميزات الثلاث التي زعمها الكاتب لتلك الكلمة، وإن الكلمة نفسها لتبرأ إلى الله من أن تكون لها على الآية ميزة واحدة فضلًا عن ثلاثة.
ولنفرض "فرضًا" أن الكلمة وثيقة الإسناد إلى عرب الجاهلية وأنها من بيانهم، فما الذي فيها؟
1 - إنها تشبه قول من يقول لك: إن قتلت خصمك لم يقتلك. وهل هذا إلا هذا؟
وهل هو إلا بلاغة من الهذيان؟
¥