أ- من ذلك قصة ذي اليدين الثابتة في صحيحي البخاري ومسلم حين توقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبول خبر ذي اليدين لما سلَّم على رأس الركعتين في إحدى صلاة العشاء فقال له ذو اليدين: " أقصرت الصلاة أم نسيت؟ "، قالوا فلم يقبل خبره حتى أخبره أبو بكر و عمر ومن كان في الصف بصدقه، فأتمَّ عليه الصلاة والسلام صلاته وسجد للسهو، ولو كان خبر الواحد حجة لأتمَّ - صلى الله عليه وسلم - صلاته من غير توقف ولا سؤال.
ب- ثم قالوا: وقد روي عن عدد من الصحابة عدم العمل بخبر الآحاد، فقد ثبت أن أبا بكر ردَّ خبر المغيرة بن شعبة في ميراث الجدَّة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة، ج- وثبت أن عمر ردَّ خبر أبي موسى في الاستئذان حتى انضم إليه أبو سعيد، وكان علي لا يقبل خبر أحد حتى يحُلِّفه سوى أبي بكر.
د- وردَّت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه.
وكلُّ ما ذكروه من شبه في الحقيقة ليس فيها دليل على ما ذهبوا إليه من عدم الاحتجاج بخبر الواحد، والإجابة عنها في غاية الوضوح لمن كان يعقل:
أ- فأما توقف النبي- صلى الله عليه وسلم- في خبر ذي اليدين، فلأن ذي اليدين ذهب إلى يقين النبي (ص) يزيله, فلم يقبل منه (ص) ذلك إلا بحجة (وهي سؤال بقية الصحابة عن صحة ما يقوله ذي اليدين). فالنبي (ص) توهم غلط ذي اليدين .. حيث استبعد أن ينفرد بمعرفة هذا الأمر دون من حضره من الجمع الكثير، ولذا قال له صلى الله عليه وسلم (لم أنس, ولم تقصر الصلاة)، وكان هذا اعتقاده صلى الله عليه وسلم، ولا يُكَلَّف الإنسان بقبول خبرٍ مع اعتقاده خطأ راويه، فلما وافقه غيره ارتفع احتمال الوهم عنه، فَقَبِلَه- صلى الله عليه وسلم- وعمل بموجب الخبر عندما تبين له عدم الوهم، وبعبارة أخرى كان يقين ذي اليدين معارضاً ليقين النبي- صلى الله عليه وسلم- ولا يمكن تقديم يقين ذي اليدين على يقين النبي (ص) إلا بمرجح خارجي وهو شهادة الصحابة الباقين.
وأمَّا ما أوردوه من أن عدداً من الصحابة لم يعمل بخبر الآحاد، فإن الثابت الذي لا شك فيه أن الصحابة رضي الله عنهم مجمعون على العمل بحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم آحادًا كان أو غير آحاد-، فإذا روي عنهم التوقف في بعض الأخبار فإن ذلك لا يدل على عدم الاحتجاج والعمل به، بل قد يكون لغرض آخر كطروء ريبة في حال الراوي، أو احتمال وهمه، أو سدِّ ذريعة أو مزيد رغبة في التثبت والاحتياط .. إلى غير ذلك من الأغراض. فإن توقفهم هو من قبيل قوله تعالى (فعززنا بثالث) يس 14. فليست الزيادة في التأكيد مانعة من أن تقوم الحجة بواحد. فإن كانت الحجة تثبت بخبر الواحد, فخبر الاثنين لا يزيدها إلا ثبوتا. وهم رضي الله عنهم يفعلون ذلك أحيانا؛ زجرا للناس وتحذيرا لهم من ألا يتقولوا عليه (ص) , وألا يحدثوا إلا بما حفظوا وتيقنوا من حديثه. وكأن لسان حال الصحابة يقول: " هذا فلان بن فلان-وهو من هو أمانة وصدقا وثقة وحفظا- أطالبه بشاهد يشهد على ما يخبر به عن النبي (ص) , فلتزدجروا, ولا تحدثوا عنه إلا بما حفظتم وتيقنتم ". وكأن الصحابة يطبقون المثل الشعبي المصري العامي القائل: (اضرب في المربوط, يخاف السايب). هذا كلام مهم انقدح في القلب, فخذه بقوة وعض عليه بالنواجذ. وقال الآمدي في الإحكام: " وما ردوه من الأخبار أو توقفوا فيه إنما كان لأمور اقتضت ذلك من وجود معارض أو فوات شرط، لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها ".
ب- ما ادعاه المخالف على أبي بكر هو الكذب بعينه, فإن أبا بكر لم (يرد) خبر المغيرة, وإنما قال له: هلْ مَعَك غَيْرُك. وليس في هذا أي رد لخبر المغيرة. إليك ما حدث بحروفه وحركاته؛ لتعلم تحريف المخالف للوقائع:
عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ: جَاءَتْ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا؟ قَالَ فَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ وَمَا لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاس. فَسَأَلَ النَّاسَ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَة: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهَا السُّدُسَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ مَعَك غَيْرُكَ, فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الأنصَارِيُّ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ
¥