تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قلت: ليس هذا على إطلاقه، فما يكون للخيلاء في مجتمع قد لا يكون كذلك في مجتمع آخر، و هذا أمر مشاهد، لأن العادات و الأعراف غير ثابتة. و قد ورد الحديث بلفظ: " وإياك والمخيلة فإن الله عز وجل لا يحب المخيلة ... " رواه أحمد في المسند (20738) و ابن المبارك في الزهد (1047) و الشيباني في الأحاد و المثاني (1183)، و هذه الرواية تبيّن أن النهي إنما هو لأجل المخيلة.كما أنه لو كان الإسبال كله مخيلة لصار قوله صلى الله عليه و سلم " من جر ثوبه خيلاء .. " لا معنى له. و كذلك فإن الواقع يبطله ضرورة كما ذكر الإمام الشوكاني رحمه الله. بل إنّ هذه الوسيلة ربما انقلبت عكسيًّا، كما هي الحال في المجتمع الذي أنا فيه، حيث ينظر إلى سحب الذيول و جرها على أنه رعونة و إهمال، و ليس عظمة و اختيالاً.

و عليه، فإن قوله في الحديث " فإنها من المخيلة " خبرٌ عن واقع و ليس حكمًا. أخبر فيه النبي صلى الله عليه و سلم عن حال الناس في عصره و ما كانوا عليه من التعاظم بجر الذيول و التخايل بسحبها. حتى أضحى الإسبال شعارًا للمترفين من أهل العجب و الزهو، و لا شك أن المؤمن الذي يعيش في مجتمع كهذا، فإنه يحسن به أن يبتعد عن الهيئات التي تثير الشبهات، و في هذا الإتجاه يَرِدُ قول رسول الله صلى الله عليه و سلم: " إزرة المؤمن إلى نصف الساق "، و هذا إرشادٌ و ليس إلزامًا.

و مهما يكن، فإن القول: بأن كل إسبال يؤدي إلى المخيلة قول يكذبه الواقع و ترده الضرورة. ذلك لأن القيم و المفاهيم الإجتماعية غير ثابتة. و قد تنبّه لذلك بعض السلف – لله درهم – فهذا أيوب السختياني و هو من أئمة المسلمين المقتدى بهم، يقول: " كانت الشهرة فيما مضى في تذييلها، و الشهرة اليوم في تقصيرها ".

أخرجه معمر في (جامعه 11/ 84) – و من طريقه عبدالرزاق في (المصنف 11/ 84)، و من طريقه أيضا: أخرجه ابن سعد في (الطبقات 7/ 248) و الدينوري في (المجالسة 191) و أبو نعيم في (الحلية 3/ 7) و البيهقي في (الشعب رقم:6243).

و بالفعل، هذا ما نراه بأعيننا حيث صارت هذه اللِّبسة شعارًا لأقوام يظنون أنفسهم الأقرب لتطبيق السنة و يزدرون من يسبل ثوبه حتى و لو كان الإسبال إلى الحد المسنون؛ أعني الكعبين. و هي الهيئة التي كان عليها سلف الأمة كما سنبينه بعد قليل. و يمعن بعض الأغمار في التشمير إلى حد الشُّهرة المذموم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (شرح العمدة 4/ 368): و يكره تقصير الثوب الساتر عن نصف الساق قال إسحاق بن إبراهيم: دخلت على أبي عبد الله – يعني الإمام أحمد - و عليَّ قميصٌ قصيرٌ أسفل من الرُّكبة و فَوقَ نصفِ السَّاق، فقال: أَيشٍ هذا؛ و أنكره، و في رواية: أيش هذا، لِمَ تُشَهِّرُ نَفسَك.اهـ

فلا بد إذًا و نحن ندرس السنة أن لا نغفل دراسة المجتمع الذي كان يعيش فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم، و نتعرف على عاداته، و الظرف الذي قيلت فيه تلك الأحاديث. فانظر مثلا إلى غسل الرِّجل و هي في النعل، و قد ذكره الأئمة في أبواب الطهارة، هل يصلح هذا لأحذيتنا؟ و انظر إلى دخول القوم إلى المساجد بالنعال، هل حال المساجد آنذاك كحال مساجدنا اليوم؟ و انظر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما بين المشرق و المغرب قبلة " هل يصلح هذا لنا معاشر المغاربة في شمال إفريقية؟

و هذا المعنى لم يزل ببال العلماء؛ قال الحافظ أبوزرعة العراقي في (التثريب) و هو يتكلم عن الأكمام: قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي: لا شك في تناول التحريم لما مس الأرض منها للخيلاء , ولو قيل بتحريم ما زاد عن المعتاد لم يكن بعيدا فقد " كان كمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ "، وأراد عمر قص كمَّ عتبة بن فرقد فيما خرج عن الأصابع، وكذلك فعل عليّ في قميص اشتراه لنفسه. ولكن قد حدث للناس اصطلاح بتطويلها فإن كان ذلك على سبيل الخيلاء فهو داخل في النهي , وإن كان على طريق العوائد المتجددة من غير خيلاء فالظاهر عدم التحريم , وذكر القاضي عياض عن العلماء أنه يكره كل ما زاد على الحاجة والمعتاد في اللباس من الطول والسعة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير