قلت: أما التشبه بالنساء فبيّنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لِبسة المرأة، والمرأة تلبس لِبسة الرجل ".رواه أبو داود (4098) و النسائي (9253) و ابن حبان في صحيحه (5751) و الحاكم في المستدرك (7415) و قال: صحيح على شرط مسلم
قال الطبري: المعنى؛ لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس. و قال الحافظ: وكذا في الكلام والمشي، فأما هيئة اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد. اهـ من (عون المعبود11/ 105).
و أما تعريض الثوب للوسخ و للنجاسة فجوابه: أن ما يصيب طرف الثوب من أذى معفو عنه من الشرع بسبب الحرج، و الأرض يطهر بعضها بعضًا. و الإحتراز من النجاسة لا يوجب بالضرورة تحريم الإسبال.
و أما الإسراف فلا أعرف وجهه، و نحن نتحدث عن ألبسة هذا العصر حيث المقاييس موحدة، و الأثواب جاهزة. نعم قد يكون الإسراف في حق من يذهب إلى خياط فيفصل له ثوبًا يزيد على قدره كنحو ذراع ... و أما مجرد بعض الإسبال فلا يكون إسرافًا، لا عرفًا و لا شرعًا.
و اعلم أن إرخاء اللباس إلى الكعبين بل إلى ما دونهما سنة متبعة خلافًا لتوهم البعض. فقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلاً و تقريرًا.
أما الفعل فقد روى أبو داود (4096) و ابن أبي شيبة (24831) و البيهقي في الشعب (6147) عن عكرمة قال: رأيت ابن عباس إذا اتزر أرخى مقدم إزاره حتى يقع حاشيته على ظهر قدميه، ويرفع الإزار مما وراءه، فقلت:لم تأتزر هكذا؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزر هذه الإزرة " وصححه الألباني رحمه الله في الصحيحة (1238).
و أما التقرير فقد روى البخاري في جامعه الصحيح في باب نوم الرجال في المسجد (442)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته "
قلت: و قوله " فمنها ما يبلغ نصف الساقين " ليس المقصود سنة اللباس و لكن لعدم وجود الثياب الكامل السابغ، كما يدل عليه سياق الحديث.
و كذلك كانت الحال بالنسبة للصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم؛ فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف (24829) عن خرشة " أن عمر دعا بشفرة فرفع إزار رجل عن كعبيه ثم قطع ما كان أسفل من ذلك. فكأني أنظر إلى ذباذبه تسيل على عقبيه "
و عن أبي إسحاق قال: رأيت ابن عباس أيام منى طويل الشعر، عليه إزار فيه بعض الإسبال، وعليه رداء أصفر. قال الهيثمي (9/ 285):رواه الطبراني وإسناده حسن. قلت: رواه الطبراني في الكبير (10572) و أبو بكر الشيباني في الأحاد و المثاني (390).
و أخرج ابن أبي شيبة وعنه أبو نعيم في الحلية: (5/ 322) وابن سعد في الطبقات: (5/ 403) عن عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن عمرو بن مهاجر قال: " كان قميص عمر بن عبد العزيز ما بين الكعب والشراك "
قال ابن عبد البر رحمه الله: وهذا يحتمل أن يكون عمر ذهب إلى أن يستغرق الكعبين كما إذ قيل في الوضوء إلى الكعبين استغرقهما، وكان الاحتياط أن يقصر عنهما إلا أن معنى هذا مخالف لمعنى الوضوء ولكن عمر ليس منهم كما قال رسول الله لأبي بكر: لست منهم، أي لست ممن يجر ثوبه خيلاء وبطرا. اهـ
و أخرج ابن أبي شيبة في (المصَنَّفِ) (رقم 24845) قال: حدثنا ابن مهدي، عن أبي عوانة، عن مغيرة قال: " كان إبراهيم قميصُه على ظهر القدم ". إسناده صحيحٌ، و ابراهيم هو ابن يزيد النخعي إمام الكوفة.
و أخرج الإمام أحمد في (العلل) – رواية ابنه عبد الله – (رقم 841) قال:حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدَّثنا حماد بن زيد، قال: " أمرَنِي أيّوب (السختياني) أن أقطعَ له قميصاً قال: اجعلْه يضرِبُ ظَهْرَ القدم، و اجعَلْ فَمَ كُمِّهِ شبراً ". وإِسنادٌه صحيحٌ
و اعلم أن حد نصف الساق إنما هو في حق الإزار دون غيره من الثياب، قال بعض الفضلاء: الثوب ليس كالإزار معنى ولا وصفاً ولا حكماً، فالثوب هو القميص وهو ما يلبس على الجلد من قطن وكتان، وله جيب وكمان، لذا لا يجوز للمحرم أن يحرم بقميص أو ثوب، بينما يشرع له أن يحرم بإزار، والإزار هو ما يتزر به، ويكون ثابتا على النصف الأسفل من البدن من السرة فما دون، فالروايات التي جاءت بالسنة المطهرة التي تحكي بأن يكون اللباس في حق الرجال إلى عضلة الساقين أو إلى أنصافهما، وفي بعض الروايات إلى الكعبين، إنما جاءت كلها بلفظ " الإزار "، قال العلامة بكر أبو زيد حفظه الله:" إن ألفاظ الروايات بجعل الإزار إلى عضلة الساقين أو إلى أنصاف الساقين كلها جاءت بلفظ " الإزار " ولم أقف على شيء منها بلفظ " الثوب ". فلنقف بالنص على لفظه ومورده ... وقال أيضاً: الإزار ثابت على النصف الأسفل من البدن من السرة فما دون، فلا يرتفع عند الركوع والسجود، أما الثوب فإذا كان طوله وطرفه إلى عضلة الساقين، أو إلى أنصاف الساقين، فإنه مع الركوع والسجود تحمله الكتفان والظهر، فينجر إلى أعلى، ويكون كشف مؤخرة الفخذ مئنة، أو مظنة قوية لانكشاف العورة، ولو انكشفت عورته وهو يصلي لبطلت صلاته.اهـ من رسالة (حد الثوب و الأزرة)
¥