قلت: وهو كما قال رحمه الله تعالى فإن الناظر في أحوال المسلمين اليوم يرى العجب العجاب؛ فقد رمى المسلمون في كثير من بلاد الإسلام الشريعة خلف ظهورهم، وانقسموا إلى شيع وطوائف، يمكن جمعها من حيث الجملة في أربع طوائف:
الأولى: طائفة مبتدعة تعبد العلماء؛ فيحللون لها ويحرمون عليها، ويتبع أصحابها العلماء فيما يحللون ويحرمون دون مستند شرعي، فلا يسألونهم عن الدليل الصحيح الذي أحلوا به هذا، أو حرموا به ذاك، وإن سألوهم في القليل النادر أجابوهم بقال خليل أو قال ابن قدامة رحم الله الجميع، ولا شك أن هذا لا يعتبر دليلا شرعيا، فمهما بلغ العالم من العلم فإن قوله لا يحرم شيئا ولا يحلله، وغاية ما يؤخذ من كلامه هو فهمه للأدلة الشرعية، وقد يكون فهما صحيحا وقد يكون خاطئا ..
وهنا شبهة تتكرر على ألسنة صغار طلبة العلم، وكثير من العوام، وهي قول بعضهم: إذا كان فلان من العلماء قد أخطأ في فهم هذا الدليل فكيف ستصيب أنت فيه، والفرق ما بينكما في العلم كما بين الثرى والثريا؟
هكذا يكررون، ويرددون في كل مرة يبين فيها خطأ عالم ما، ولا شك أن هذا من الباطل الظاهر، ومن الجهل بالله عز وجل وبنعمه على عباده، ثم إن فيه من الجهل بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره).
ومع ذلك فلا شك أن احتمال إصابة العلماء الكبار في فهمهم للأدلة الشرعية هو احتمال كبير، لقدمهم في العلم وما خصهم الله به من الحفظ، والفهم، والورع، والتقوى، ولكنهم مع ذلك قد يخطئون، ويصيب غيرهم ممن هو دونهم في العلم بمسافات بعيدة، وقد كان صغار الصحابة رضوان الله عليه يفهمون ما لا يفهم كثير من كبارهم مع تقدمهم عليهم في الفضل والعلم وغير ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة فلا أطيل بسردها.
والحاصل أن سؤال العالم لا يستغنى عنه، ولكنه لا يسأل عن اجتهاده إلا عند عدم وجود النص الصحيح الصريح، ثم إن اجتهاده غير ملزم في جميع الأحوال؛ سواء كان اجتهاده في فهم النص، أو كان في مسألة لا نص فيها، وما تفرق المسلمون مذاهب وشيع إلا عندما قلدوا أقوال العلماء التي لا تستند إلى دليل شرعي صحيح، ثم ما زال أتباع تلك المذاهب يصنفون في أصول مذهب فلان وفلان حتى صار الحال إلى ما صار إليه من اعتماد على أقوال أولئك الرجال، وطرح النصوص الصحيحة؛ ومعارضتها في أحيان كثيرة بأقوال أئمة المذاهب؛ بل وبأقوال من ليس بإمام ولا مأموم في الصفوف الأول .. !
ومن المعلوم أن الله تعالى قد حذر من العلماء المضلين وتقليدهم؛ بل وتقليد حتى العلماء الطيبين الداعين إلى الخير، قال جل من قائل: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين .. ).
قال القرطبي – رحمه الله تعالى – عند تعداده لفوائد هذه الآية: (ودلت أيضا على منع التقليد لعالم إلا بحجة يبينها؛ لأن الله تعالى أخبر أنه أعطى هذا آياته فانسلخ منها، فوجب أن يخاف مثل هذا على غيره، وأن لا يقبل منه إلا بحجة).
أما الطائفة الثانية: فهي جماعة اتبع أصحابها النصارى في تشريعاتهم، وقلدوهم في نظرتهم المادية لهذا الكون، وتفسيرهم الاقتصادي لعلاقة الإنسان به، فسلموا عنان أفكارهم لهم، وانبهروا بما أنتجته حضارتهم من تقدم تقني، وازدهار اقتصادي؛ فصار همهم وهدفهم الذي يسعون من أجله ليل نهار هو أن يلحقوا دولهم بالنصارى، ويجعلوا مجتمعهم نسخة طبق الأصل من مجتمعات الغرب الكافرة؛ فقالوا بلسان حالهم: إذا كان الغرب متقدما، والمرأة فيه متبرجة؛ فيجب أن تكون كذلك في مجتمعنا حتى نلحق به، وإذا كان نصف المجتمع الغربي من المخنثين؛ فيجب أن نصنع عقارا يقضي على الهرمونات الذكرية في مجتمعنا حتى تكثر عندنا كمية المخنثين .. وهكذا، فهؤلاء في نظري لا يحتاجون إلى تعليق؛ لأن العامي يعلم ضلالهم وجهلهم وتخلفهم العقلي فضلا عن الشرعي.
أما الطائفة الثالثة: فهي جماعة اتبع أصحابها المتصوفين والمشعوذين بحثا عن تنويم مغناطيسي يهربون فيه من واقعهم، وإن كان إلى واقع أسوأ منه.
¥