[جوابها منها]
ـ[محمد بن إبراهيم الحمد]ــــــــ[07 Jun 2009, 05:22 م]ـ
[جوابها منها]
هذا العنوان قطعة من كلمة تنسب للإمام أبي حنيفة-رحمه الله-.
ونصُّها: "إذا أتتك معضلة فاجعل جوابها منها".
يعني إذا أتتك مسألةٌ مُشكلةٌ فأمكنك أن تنزع الجواب من تلك المسألة _فإن ذلك من أحسن وجوه الجواب، كما يذكر عن الصاحب بن عباد أنه قيل له: ما أَحْسَنُ السجع؟ قال: ما خَفَّ على السمع، فقيل له: مثل ماذا؟ قال: مثل هذا!!
وهكذا أجابَ بإجابة رائعة مُمَتَّعة بمثال مُنْتَزَعٍ من سؤال السائل.
والغرض من السياق ههنا بيان ما يقع فيه بعضُ مَنْ تُعْرَضُ عليه المشكلاتُ من طرف واحد، فتراه أحياناً يجيب بأجوبة لا تفي بالغرض، ولا تحل المشكلة.
مثال ذلك أن تسألَ امرأةٌ أحداً لا يَعْرفها عن ظلم زوجها لها، وتشكو تقصيرَه في حقها، فترى ذلك المسؤول يشرِّق ويغرب في مسألة تحريم الظلم، ويوصيها بالصبر، وربما أوصاها بالفراق.
وأولى لهذا ثم أولى أن يسألها عن سبب تقصير زوجها، وعن معاملتها معه؛ فربما كانت هي السبب، وربما كان تقصيرها أكثر من تقصيره.
فإذا توصل إلى تلك النتيجة أوصاها بأن تغير من طريقتها معه، وأعلمها بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ثم يذكرها بعواقب الأمور، وبكيفية خاتمتها إذا تماديا في الخصام، وهكذا ...
فمثل ذلك أجدى نفعاً من الحلول المخدِّرة التي تشعر السائل بأنه على حق دون معرفة الطرف الآخر الذي لو قدر السماعُ منه لتغيرت النظرة للقضية.
مثال آخر، وهو أن يأتي شاب فيعرض مشكلته وتقصير والده في حقه، وأنه لا يعطيه قدره من الشفقة والعطية، وأنه قد كَبِر، فصار لتلك المعاملة أثر في نفسه، فمنعته من الترقي في المعالي، وهلم جرا ...
فربما عرضها على أحد من الناس، فبدأ يُخَطِّئُ والدَ السائل، ويقول: لو أنه فعل كذا وكذا، ثم يبدأ يلتمس المعاذير للسائل، فَيُسوِّغ له عجزَه، وقعودَه وما جرى مجرى ذلك من المسوغات التي لا تجدي نفعاً، ولا تطفئ لوعة، بل تُغْرِي بالتمادي في الخطأ، وتسوغ الكسل والبطالة.
ولو قيل لذلك الذي عرض مشكلته: الأمر _بعد توفيق الله_ بيدك، وبإمكانك السير على قدميك، وتدارك كثير مما فاتك، إذا أنت اعتمدت على الله، وأخذت بالأسباب، وتركت التسويف، وإلقاء اللائمة على الآخرين.
فهذا خير من تخديره بكلام معسول يُسَوِّغ له ما هو فيه من الكسل والهمود.
ولقد جربتُ تلك الطريقة فَوَجَدْتُ نفعَها وأثرها، وإليك أيها القارئ الكريم أمثلةً على ذلك.
1_ هناك شاب قد تخرج في إحدى الجامعات، وعَمِل في قطاع خاص ثم تركه، ثم تَقَلَّب في الدنيا ما قدِّر له أن يتقلب، ثم أراد أن يستدرك ما فاته، وأن يقبل على مصالحه؛ فكان يأتي لبعض أصدقائه، وأقاربه، ويشكو من كنود والده، وقسوته، ويعاتب زملاءه الذين عملوا معه في ذلك القطاع، وأنهم سبب انحرافه، وتركه العملَ، ويشكو الناس على قلة اهتمامهم به، إلى غير ذلك من تلك القائمة المليئة بالشكوى، والحرقة، والألم.
وبعد ذلك تعرف صاحبنا على صديق مخلص، فبحث له عن عمل، أو أحد يقرضه مالاً؛ كي يبدأ به بعض الأعمال، ولكنه لم يفلح في شيء من ذلك.
وفي يوم من الأيام زارني هو وصاحبه، وبدأ صاحبه بعرض مشكلة صديقه الشاب، ورغب في أن يُبحث له عن عمل.
وبعد ذلك اتصلت على أحد المعارف في إحدى الشركات، فعرضت عليه موضوع أخينا، فقال: ليأتنا، حتى نقابله، ثم ننظر في شأنه، فجاءهم بعد أيام، وأجريت له المقابلة، ولكن الشخص الذي قابله لم يعرفه، وسأله بعض الأسئلة، وتبين له من خلال اجتهاده أنه غير صالح للعمل، فَرُدَّ.
وبعد مدة قابلت صاحبنا الشاب، وسألته فأخبرني بما كان.
وللمعلومية فإن هذا الشاب يتمتع بمواهب، ولديه همةٌ عالية، وقُدْرةٌ على القيام بكثير من الأعمال التي تسند إليه، ولكنه قليل الثقة بنفسه، ولم يجد المجال الذي يناسبه.
الحاصل أنني اتصلت بمن قابله، فأخبرني بما كان، وقال: لو يأتينا مرة أخرى.
وبعد مدة ذهب، وقابل مسؤولاً آخر في الشركة، فقبلوه، وانتظم في العمل، فرأيته بعد ذلك فسألته، فقال: إنه بدأ في العمل، ولكن والده لا يزال على جفوته، وأن في نفسه شيئاً من ذلك الشخص الذي قابله المرة الأولى.
¥