[درس من الموسوعة الفقهية]
ـ[أبو الخير صلاح كرنبه]ــــــــ[19 Jun 2009, 08:51 ص]ـ
الموسوعة الفقهية / الجزء الرابع والثلاثون
تكفير الصغائر باجتناب الكبائر:
16 - ذهب جمهور الفقهاء وجماعة أهل التفسير إلى أنّ الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، لقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا}، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}. كما استدلّوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفّرات ما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر».
وذهب الأصوليّون - كما قال القرطبيّ - إلى أنّه لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنّما محمل ذلك على غلبة الظنّ وقوة الرجاء، والمشيئة ثابتة بقوله تعالى:
{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}، قالوا ولا ذنب عندنا يغفر واجباً باجتناب ذنب آخر، ودل على ذلك أنّه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض بتكفير صغائره قطعاً لكانت له في حكم المباح الذي نقطع بأنّه لا تباعة عليه، وذلك نقض لعرى الشريعة، كما استدلّوا بحديث: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنّة، فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: وإن قضيباً من أراك» فقد جاء الوعيد الشديد على اليسير كما جاء على الكثير.
قال القرطبيّ: إنّ الله تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب، وهي إقامة الفرائض.
واختلف هل شرط التكفير للصغائر عدم ملابسته لشيء من الكبائر أو لا يشترط؟ حكى ابن عطية وغيره عن الجمهور الاشتراط، لظاهر حديث: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفّرات ما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر» واختار بعض المحقّقين أنّه لا يشترط، قالوا: والشرط في الحديث بمعنى الاستثناء، والتقدير: مكفّرات ما بينهما إلا الكبائر.
ويساعد ذلك مطلق الأحاديث المصرّحة بالتكفير من غير شرط.
تكفير الحجّ للكبائر:
17 - روى عباس بن مرداس رضي الله عنه «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة فأجيب: إنّي قد غفرت لهم ما خلا الظالم فإنّي آخذ للمظلوم منه، قال: أي ربّ، إن شئت أعطيت المظلوم من الجنّة وغفرت للظالم، فلم يجب عشيته، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدّعاء، فأجيب إلى ما سأل ... »، وروى ابن المبارك «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: إنّ الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، هذا لنا خاصةً؟ قال: هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كثر خير الله وطاب»، قال ابن عابدين: وتمامه في الفتح وساق فيه أحاديث أخر، والحاصل أنّ حديث ابن ماجه - وإن ضعّف - فله شواهد تصحّحه، والآية أيضاً تؤيّده، ومما يشهد له أيضاً حديث: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه»، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: «أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنّ الحج يهدم ما كان قبله».
لكن ذكر الأكمل في شرح المشارق في هذا الحديث أنّ الحربي تحبط ذنوبه كلّها بالإسلام والهجرة والحجّ حتى لو قتل وأخذ المال وأحرزه بدار الحرب ثم أسلم لم يؤاخذ بشيء من ذلك، وعلى هذا كان الإسلام كافياً في تحصيل مراده ولكن ذكر صلى الله عليه وسلم الهجرة والحج تأكيدًا في بشارته وترغيباً في مبايعته فإنّ الهجرة والحج لا يكفّران المظالم ولا يقطع فيهما بمحو الكبائر وإنّما يكفّران الصغائر، ويجوز أن يقال والكبائر التي ليست من حقوق أحد كإسلام الذّمّيّ، وكذا ذكر الإمام الطّيبيّ في شرحه وقال: إنّ الشارحين اتفقوا عليه، وهكذا ذكر النّوويّ والقرطبيّ في شرح مسلم.
¥