تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قوله تعالى: ((وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (يونس: 12))).

قال الإمام ابن عطية: ((و {الضر} لفظ لجميع الأمراض والرزايا في النفس والمال والأحبة هذا قول اللغويين، وقيل هو مختص برازيا البدن، الهزال والمرض.

وقوله {مرَّ} يقتضي أن نزولها في الكفار، ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر أو عاص.

فمعنى الآية {مر} في إشراكه بالله وقلة توكله عليه)).

قلت: هذا من فقه الإمام الذي تكرر في كتابه في غيرما من موطن، وهو حمل بعض الآيات التي نزلت في الكفار على من يصلح أن يخاطَب بها من أهل الإيمان.

وقد قال في السورة نفسها في تفسير قوله تعالى: ((وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (يونس: 21)))، قال: ((وقوله: (وإذا أذقنا الناس) الآية، المراد بالناس في هذه الآية الكفار وهي بعد تتناول من العاصين من لا يؤدي شكر الله تعالى عند زوال المكروه عنه ولا يرتدع بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثير)).

وقال في قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159))): ((وقوله تعالى {إن الذين يكتمون} الآية، المراد بالذين أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، قال الطبري: «وقد روي أن معينين منهم سألهم قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عما في كتبهم من أمره فكتموا فنزلت، وتتناول الآية بعد كل من كتم علماً من دين الله يحتاج إلى بثه، وذلك مفسر في قول النبي صلى الله عليه وسلم:» من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار «، وهذا إذا كان لا يخاف ولا ضرر عليه في بثه.

وهذه الآية أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله: ((لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثاً)). وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: ((حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: أما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم)).

وهذه الآية أراد عثمان رضي الله عنه في قوله: ((لأحدثنكم حديثاً لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه) ومن روى في كلام عثمان: ((لولا أنه في كتاب الله))، فالمعنى غير هذا)).

وقال في قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174): ((وقوله تعالى: {إن الذين يكتمون} الآية، قال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي: المراد أحبار اليهود الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، و {الكتاب}: التوراة والإنجيل: والضمير في {به} عائد على {الكتاب}، ويحتمل أن يعود على {ما} وهو جزء من الكتاب، فيه أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه وقع الكتم لا في جميع الكتاب، ويحتمل أن يعود على الكتمان، والثمن القليل: الدنيا والمكاسب، ووصف بالقلة لانقضائه ونفاده، وهذه الآية وإن كانت نزلت في الأحبار فإنها تتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختاراً لذلك لسبب دنيا يصيبها)).

قلت: وهذا الفقه قد درج عليه علماء الأمة من لدن الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يقع منهم اعتراض على هذا المنهج (تناول الآيات التي نزلت في الكفار على حال من يتلبس بها من المؤمنين) سوى ما ذكر البخاري ـ معلقًا ـ عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر، قال: ((وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ وَقَالَ إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِى الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)).

وهذا العمل الذي انتقده أبو عبد الرحمن ـ فيما يبدو ـ أنهم جعلوا الأوصاف التي يحتمل وقوعها من المؤمنين كفرًا مخرجًا من الملة، لما رأوها نزلت في سياق الكفار، ولم يُحكموا القياس في التنزيل، والفرق بين المؤمن والكافر في اعتبار الأصل فيهما، بل جعلوا مطلق الفعل كفرًا.

ولهذا تراهم عمِلوا بما تأوله، وقاتلوا المسلمين على ذلك، وهذا كافٍ في ثبوت فساد قولهم كما نبَّه له ابن عمر.

أما ما ذكره الإمام من جواز تنزيل الآيات التي نزلت في الكفار على حال بعض المؤمنين، فهو بمعزل عن هذا؛ لأن هذا التنزيل لا يُخرج المسلم من إسلامه، كما أن الوصف الذي جاء في سياق الكفار ليس وصفًا كفريًّا محضًا بحيث يُحكم على من تلبَّس به بأنه كافر، بل هو وصف يلحق الإنسان من حيث هو إنسان.

ولو تأمَّلت كثيرًا من النصوص التي نزَّلها الصحابة على أنفسهم أو على غيرهم لوجدتها من هذا القبيل، ومثال ذلك:

ما رُوي من أوجهٍ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، قال الإمام مالك: ((عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَدْرَكَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ حِمَالُ لَحْمٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَرِمْنَا إِلَى اللَّحْمِ فَاشْتَرَيْتُ بِدِرْهَمٍ لَحْمًا فَقَالَ عُمَرُ أَمَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَطْوِيَ بَطْنَهُ عَنْ جَارِهِ أَوْ ابْنِ عَمِّهِ أَيْنَ تَذْهَبُ عَنْكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا)))، والله أعلم وأحكم.

http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=12544

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير