إن فضول المخالطة هي الداء العضال الجالب لكل شر وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة وكم زرعت من عداوة وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول ..
ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر:
القسم الأول: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه وهم العلماء.
القسم الثاني: من مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض كمن تخالطهم للمعاش وكسب العيش وقضاء الحاجيات.
القسم الثالث: وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه ..
وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به فهو يحدث من فيه كلما تحدث ويظن أنه مسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق جرها على الأرض ..
ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر ..
وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا.
القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا.
فمن كان بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم وهي فضول النظر والكلام والطعام والمخالطة واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التي تحرزه من الشيطان فقد أخذ بنصيبه من التوفيق وسد على نفسه أبواب جهنم وفتح عليها أبواب الرحمة وانغمر ظاهره وباطنه ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء فعند الممات يحمد القوم التقي وعند الصباح يحمد القوم السرى والله الموفق لا رب غيره ولا إله سواه. اهـ
قلت: من الناس من هم شياطين كما تقدم وذكرنا في الباب الأول ..
ومن الناس كذلك وهم أكثر من نخالط الأهل والأولاد وهم كما قال الله:
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ?
وكذلك من الناس من هم من أهل المال والثراء والجاه والسلطان ..
ومنهم الفقراء والمساكين وقد قال الله:
? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ?
وانظر إلى بعض المعاصي الكبار كالغيبة فهي لا تقع إلا في حق البعض أمام البعض .. والنميمة كذلك .. والنجوى من الشيطان ..
فالتوسط هو العدل: فالجماعة أمر شرعي والفرقة من الشيطان ..
والعزلة عن الناس فتنة إبليس الكبرى وهي تشبه عمل الرهبان ولا رهبانية في الإسلام .. فوجودك مع الناس يدخلك الجنة إما بالصبر على أذاهم، أو بالإحسان إليهم، وتزاورهم والنصح لهم .. الخ
فلا غنى لك عن مخالطة الناس سيئهم ومحسنهم بشرط أن تبتغي في معاملتك وجه الله وما عنده من خير ..
فالمرء يؤجر على بره والديه وتربيته ولده وإطعامه أهله وصلة رحمه ..
ويحمل الوزر في العقوق والهجر وقطع الأرحام ..
فالميزان لابد وأن يكون بما جاء به الشرع، فالدين كما حدد علاقتك بربك، بين لنا كذلك حدود معاملتك للناس خيرهم وشرهم ..
فالخلاص من ورطة المخالطة وآثارها كما ذكرها ابن القيم إنما تكون بإتباع ما بينه الله في كتابه وشرحه رسوله في سنته وهديه.
وانظر إلى هذا الموقف بعين الإنصاف:
روى مسلم عن أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول الله:
إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملَّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك. [رواه مسلم 2558 وأحمد 2/ 300]
وقوله: الملَّ، هو الرماد الحار أي كأنما تطعمهموه.
وبهذا المثل يتضح لك الطريق .. والعاصم الله.
• محاربة الشيطان بسلاحه
والأمر المهم في الوقاية هو التحرز منه وأخذ الحيطة في كل أمورنا ..
قال الحارث بن قيس: إذا هممت بخير فعجله وإذا أتاك الشيطان فقال إنك ترائي فزدها طولاً .. أي الصلاة. [مصنف ابن أبي شيبة 2/ 223 بسند صحيح]
¥