فإن قلت لا أقبل بهذه الآثار .. فدونك هذه الرواية الصحيحة: عن أبي أسيد مالك بن ربيعة بعدما كف بصره قال: لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى .. فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس وأوحى الله إليهم أني معكم فثبتوا الذين آمنوا [وتثبيتهم أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول له أبشر فإنهم ليسوا بشيء والله معكم] فكروا عليهم فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون وهو في صورة سراقة وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه ثم قال: واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال فلا تقتلوهم وخذوهم أخذا ..
ذكره ابن كثير في التفسير وابن إسحاق في السيرة 2/ 421 بسند ضعيف والبيهقي في الدلائل 3/ 75 ورواه الحاكم بسند صحيح.
وهذا يشهد لما رواه الطبراني عن رفاعة بن رافع قال: لما رأى إبليس ما فعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص إليه فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظن أنه سراقة بن مالك فوكز في صدر الحارث ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البحر.
رواه الطبراني 5/ 47 وقال الهيثمي (6/ 100) فيه عبد العزيز بن عمران وهو ضعيف.
وفي رواية البيهقي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وجاء إبليس في جند من الشياطين، معه راية في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم).
وقد ذكرت لك من شعر حسان بن ثابت وهو يذكر خدعة إبليس لقريش ..
ونؤيد ما قلناه بكلام المفسرين:فممن قال ذلك من المفسرين: ابن جرير وابن كثير والقرطبي .. وهؤلاء غيرهم:
قال الإمام ابن عطية في المحرر الوجيز (3/ 194): و {الشيطان} إبليس نفسه، وحكى المهدوي وغيره أن التزيين في هذه الآية وما بعده من الأقوال هو بالوسوسة والمحادثة في النفوس.
قال القاضي أبو محمد: ويضعف هذا القول أن قوله {وإني جار لكم} ليس مما يلقى بالوسوسة، وقال الجمهور في ذلك بما روي وتظاهر أن إبليس جاء كفار قريش، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو سيد من ساداتهم.
وفي تفسير القرآن لعبد الرزاق الصنعاني (3/ 2): حدثنا عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة في قوله تعالى: وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس، قال الكلبي: إن سراقة بن مالك تمثل به الشيطان، وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم فاثبتوا فلما رأى الملائكة نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله. فذلك منه كذب فذكروا أنهم أقبلوا على سراقة بعد ذلك فأنكر أن يقول شيئا من ذلك.
وفي تفسير ابن أبى زمنين (1/ 234): فأتاهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال يا قوم لا ترجعوا حتى تستأصلوهم فإنكم كثير وعدوكم قليل فتأمن عيركم وأنا جار لكم على بني كنانة.
وفي معانى القرآن للفراء (2/ 84): وقوله: {وإذ زين لهم الشيطان} هذا إبليس تمثل في صورة رجل من بنى كنانة يقال له سراقة بن جعشم.
وفي تفسير ابن أبي حاتم (7/ 114): يذكر استدراج إبليس إياهم، وتشبهه بسراقة بن جعشم، حين ذكروا ما بينهم وبين ابن عبد مناة بن كنانة من الحرب التي كانت بينهم.
وقال البغوي (3/ 366): قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} وكان تزيينه أن قريشا لما اجتمعت للسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب، فكاد ذلك أن يثنيهم فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته، فتبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، {وَقَالَ} لهم {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}.
وقال الرازي (7/ 413): ما الفائدة في تغيير صورة إبليس إلى صورة سراقة؟ والجواب فيه معجزة عظيمة للرسول عليه السلام وذلك لأن كفار قريش لما رجعوا إلى مكة قالوا هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم. فعند ذلك تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سراقة بل كان شيطاناً.
¥