ويقول الألوسي في تفسيره روح المعاني (3/ 49) بعد أن تحدث عن المس الشيطاني للإنسان: واعتقاد السلف وأهل السنة أن ما دلت عليه أمور حقيقية واقعة كما أخبر الشرع عنها، والتزام تأويلها كلها يستلزم خبطاً طويلاً لا يميل إليه إلا المعتزلة ومن حذا حذوهم، وبذلك ونحوه خرجوا عن قواعد الشرع القويم.
وأنا أعرف أن نفي تصور الشيطان في الصور ذريعة لنفي دخوله جسم الإنسان، ولذلك تحاولون جهدكم نفي هذه المسألة لترتقوا لما بعدها،،
وفي طريقكم تدوسوا على الأحاديث والآثار إما إنكارا أو تأويلا يوافق معتقدكم، متناسين أن هذا رأي جمهور الأمة من أهل السنة، وما خلافه تخبيط من تخابيط الشيطان بالمعتزلة ومن تبعهم ..
وأنا عرضت عليكم أحاديث كثيرة أكثرها صحيح وقليل منها حسن ولا فرق ..
وأنتم تؤولون هذه وتتركون تلك، وإن سنحت لكم الفرصة أن تتوهموا التوفيق في تأويل إحداها فكيف بها مجموعة مع تقرير العلماء الجهابذة الكبار ..
ومرة أخيرة أسأل الجميع: من قال بعدم هذا التشكل، وما هي حجته أمام الأحاديث والآثار؟ وأمام رأي جمهور العلماء؟
أما أخي أبا دعاء:
فأولا .. جزاك الله خيرا على دعائك الطيب، ولك بمثل إن شاء الله تعالى ..
وثانيا: أنا لم أستدل بكلمة (زين) وإنما بما بعدها من كلمات واضحة، مثل قوله (إني جار لكم) وقوله (نكص على عقبيه) وأنت تتجاهل هذا ..
وقياسك هذا على قصة آدم غير ناضج، لأن للأنبياء خصوصيات غير الناس، وقصتنا هنا عن تصور الشيطان للكفار في صورة سراقة .. فاعرف بماذا تستدل ..
لأننا أولا لا ننكر الوسوسة بينما أنت تنكر غيرها .. وثانيا: نحن نقول أن الوسوسة أقوى وأشد وأخطر من الظهور في أي صورة، وهذا واضح جدا لكل ذي عقل ولب.
ثم في التفسير لهذه الآية اختلف المفسرون - إن كنت لا تعلم – عن كيفية وسوسة إبليس لأدم وزوجه؟ على ثلاثة أجوبة هي أقاويل اختلف فيها أهل التأويل بلا مرجح:
أحدها: أنه وسوس إليها وهما في الجنة في السماء، وهو في الأرض، فوصلت وسوسته بالقوة التي خلقها الله له إلى السماء ثم الجنة، وهذا قاله الحسن.
والثاني: أنه كان في السماء وكانا يخرجان إليه فيلقاهما هناك.
والثالث: أنه خاطبهما من باب الجنة وهما فيها. فاختر أيها يعجبك ..
وإن قلت: وسوس وسوسة قلبية، فلا خلاف ولا وجه لاستشهادك بها.
ولكن أنا بدوري أعترض عليك بسؤال وهو:
كيف قاسمهما كما في قوله عز وجل: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}؟
فإن قلت: قاسمهما بالوسوسة أيضا فقد ذهبت خارج نطاق العقلاء، لأن المقاسمة لا تكون إلا بين طرفين وفي القصة إبليس طرف وآدم وزوجه الطرف الآخر.
وإن قلت: كان ظاهرا لهما، قلنا ظاهرا في أي صورة؟
فلو قلت: ظهر لهما في صورته الحقيقية فهذا أولا يبطل استشهادك بالقصة من أساسها.
وثانيا: نريد دليلا صحيحا على أن آدم وزوجه رأوا الشيطان على صورته الحقيقية.
وإن قلت تصور لهما بأي صورة .. فقد وافقتنا وأنت لا تدري ..
فاعرف أخي بماذا تستدل!! فأنت كثيرا ما تبحث عما لا وجه لك فيه لتبطل الصحيح المعروف من السنة والآثار ..
وإليك هذه الفوائد بخصوص هذه الآية:
قال الإمام القرطبي (1/ 312): ولا خلاف بين أهل التأويل وغيرهم أن إبليس كان متولي إغواء آدم، واختلف في الكيفية، فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء أغواهما مشافهة، ودليل ذلك قوله تعالى: " وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " والمقاسمة ظاهرها المشافهة.
لكن جاء في مجموع فتاوى ابن تيمية (التفسير) (5/ 493):
وليس من شرط الموسوس أن يكون مستترا عن البصر (الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) بل قد يشاهد، قال تعالى: {فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} [الأعراف: 20، 21]، وهذا كلام من يعرف قائله، ليس شيئا يلقى في القلب لا يدري ممن هو، وإبليس قد أمر بالسجود لآدم فأبي واستكبر، فلم يكن ممن لا يعرفه آدم، وهو ونسله يرون بني آدم من حيث لا يرونهم، وأما آدم فقد رآه.
وقد يرى الشياطين والجن كثير من الإنس، لكن لهم من الاجتنان والاستتار ما ليس للإنس، وقد قال تعالى: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم} [الأنفال: 48]، وفي التفسير والسيرة: أن الشيطان جاءهم في صورة بعض الناس، وكذلك قوله: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين} [الحشر: 16]. اهـ
وممن قال بإمكانية ظهور الشيطان ومحاورته لآدم حقيقة قول الإمام ابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز (3/ 20): عن قوله تعالى: {وقال ما نهاكما} الآية هذا القول الذي حكي عن إبليس يدخله من هذا التأويل ما دخل الوسوسة، فممكن أن يقول هذا مخاطبة وحواراً، وممكن أن يقول إلقاء في النفس ووحياً.
وقول ابن حيان في تفسيره البحر المحيط (5/ 322): وظاهر القرآن لأن يدل على قول ومحاورة وقسم.
وقال رشيد رضا في تفسير المنار (8/ 309): والظاهر هنا أن الشيطان تمثل لآدم وزوجه وكلمهما وأقسم لهما، ولا مانع منه على قول الجمهور.
هل عرفت الآن أخي أبا دعاء؟
المهم أنك كلما تشعب الموضوع تستدل بما لا دليل عليه ..
أرجوا أن تنتقي أدلتك بعناية، وتراجع شبهاتك وتجمعها كلها فترد بها الأدلة الصحيحة الصريحة في الباب ..
فليس معنى أننا نتناقش أن ندور في حلقة مفرغة، فلا نفيد من يطلع على هذه البحوث ..
سدد الله خطاكم جميعا إلى ما يحب ويرضى.
آمين.
¥