تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهنا أيضاً نجد الأستاذ الإمام قد خالف طريقته في مبهمات القرآن فراح يخوض في التفصيلات والجزئيات، ثم جوَّز أن تكون الطير هي ما يُسمى اليوم بالميكروبات، كما جوَّز أن تكون الحجارة هي جراثيم بعض الأمراض، وهذا ما لا نُقره عليه، لأن هذه الجراثيم التي اكتشفها الطب الحديث لم يكن للعرب علم بها وقت نزول القرآن، والعربي إذا سمع لفظ الحجارة في هذه السورة لا ينصرف ذهنه إلى تلك الجراثيم بحال من الأحوال، وقد جاء القرآن بلغة العرب، وخاطبهم بما يعهدون ويألفون.

وإذا كان الأستاذ الإمام قد أعطى لعقله الحرية الكاملة في تفسيره للقرآن الكريم، فإنَّا نجده يُغرِق في هذه الحرية ويتوسع فيها، إلى درجة وصلت به إلى ما يشبه التطرف في أفكاره، والغلو في آرائه.

موقفه من حقيقة الملائكة وإبليس:

فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى في الآيات [34] وما بعدها من سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمََ} ... إلى آخر القصة، نجده يقول:

" وذهب بعض المفسِّرين مذهباً آخر في فهم معنى الملائكة، وهو أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخِلْقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك، فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة، وهو أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص، نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان، فكل أمر كلى قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده، فإنما قوامه بروح إلهي سمي في لسان الشرع مَلَكاً، ومَن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسم هذه المعاني القوى الطبيعية، إذا كان لا يعرف من عالَم الإمكان إلا ما هو طبيعة، أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة. والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه، هو أن في باطن الخِلْقة أمراً هو مناطها، وبه قوامها ونظامها، لا يمكن العاقل أن ينكره، إن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته مَلَكاً، وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوة طبيعية أو ناموساً طبيعياً، لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع، فالحقيقة واحدة، والعاقل مَن لا تحجبه الأسماء عن المسميات، وإن كان المؤمن بالغيب يرى للأرواح وجوداً لا يدرك كنهه، والذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح، ولكن أعرف قوة لا أفهم حقيقتها، ولا يعلم إلا الله علام يختلف الناس، وكلٌ يقر بوجود شيء غير ما يرى ويحس، ويعترف بأنه لا يفهمه حق الفهم، ولا يصل بعقله إلى إدراك كنهه؟ وماذا على هذا الذي يزعم أنه لا يؤمن بالغيب - وقد اعترف بما غيب عنه - لو قال: أُصدِّق بغيب أعرف أثره، وإن كنت لا أُقدِّر قدره، فيتفق مع المؤمنين بالغيب، ويفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحي، ويحظى بما يحظى به المؤمنون؟

"يشعر كل مَن فَكَّر في نفسه، ووازن بين خواطره عندما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن في نفسه تنازعاً كأن الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى. فهذا يُورد وذاك يدفع، واحد يقول افعل، وآخر يقول لا تفعل، وآخر يقول لا تفعل، حتى ينتصر أحد الطرفين، ويترجح أحد الخاطرين، فهذا الشيء الذي أُودع في أنفسنا ونسميه قوة وفكراً، وهى في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه، وروح لا تُكتنه حقيقتها، لا يبعد أن يسميه الله ملَكَاً، أو يسمى أسبابه ملائكة، أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حَجْرَ فيها على الناس، فكيف يُحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة، والسلطان النافذ والعلم الواسع".

ثم قال الأستاذ الإمام بعد ذلك: " فإذا صح الجري على هذا التفسير، فلا يُستبعد أن تكون الإشارة في الآية أن الله تعالى لما خلق الأرض، ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها ونظامها، وجعل كل صنف من القوى مخصوصاً بنوع من أنواع المخلوقات، لا يتعداه ولا يتعدى ما حُدِّد له من الأثر الذي خُصَّ به.؟ خلق بعد ذلك الإنسان، وأعطاه قوة يكون بها مستعداً لتتصف بجميع هذه القوى وتسخيرها في عمارة الأرض، وعبَّر عن تسخير هذه القُوَى بالسجود الذي يُفيد معنى الخضوع والتسخير، وجعله بهذا الاستعداد الذي لا حد له، والتصرف الذي لم يُعط لغيره، خليفة الله في أرضه، لأنه أكمل الموجودات في الأرض، واستثنى من هذه القُوَى قوة واحدة، عبَّر عنها بإبليس، وهى القوى التي

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير