تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

من الواضح تماما أن هذه الأدوار متكاملة في الغايات؛ إذ فيما تكون غاية العالم إنشاء المعرفة وبناءها؛ فإن غاية الداعية تتحدد في تطبيقها، وغاية المرجعية تكون في تثبيتها وإكسائها صبغة المشروعية. لكن هذا لا يعفي من القول بأن دوري العالم والداعية من جهة أخرى متعارضان إلى حد التضاد، فبينما يتجه خطاب العالم إلى الخواص يتجه خطاب الداعية إلى الجمهور والعامة، وفي حين يعتمد الخطاب العلمي لغة اصطلاحية معقدة وجافة؛ يعتمد الخطاب الدعوي لغة أدبية بلاغية تأثيرية بسيطة، ومقابل المنطق الشكي النقدي في البناء الذهني للعالم هناك المنطق التسليمي للداعية، وفيما يتجه ذهن العالم صاعدا باتجاه التجريد والتقعيد (حيث يهدف العالم لاستخلاص الكليات) فإن ذهن الداعية يتجه نازلا باتجاه مستوى التطبيق وباتجاه مستويات ذهنية مخاطبة أدنى.

هذا التعارض يطلق عليه في علم الاجتماع "صراع الأدوار". من أجل هذا كان في المجتمع تمايز بين من سُموا بـ"الوعاظ"، وبين أهل العلم الذين غالبا ما يطلق عليهم وصف "أهل الفقه"، الفقه هنا بمعناه العام (مطلق الفهم). وليس مفارقة إذن ألا يجتمع على حلقة شيخ الإسلام ابن تيمية في المسجد الأموي الكبير في دمشق –مثلا- ما لا يتجاوز عدد أصابع الإنسان، فيما كان يجتمع لبعض الوعاظ "خلق على مد النظر".

لكن هل يعني هذا التمايز عدم قدرة أحدهما على ممارسة دور مزدوج متجاوزا "صراع الأدوار"؟ بالطبع لا، ولكن يجب القول: إن هذا يحتاج إلى مجهود مضنٍ. فعلى الرغم من أن في تاريخنا شخصيات كبيرة استطاعت أن تقوم بالدورين من أمثال ابن سيرين والحسن البصري وعبدالرحمن بن الجوزي والشهرستاني (صاحب الملل والنحل) وابن السمعاني، فإن هؤلاء العلماء المتقنين هم قلة قليلة بالنسبة لمن اشتهر بالجمع بين العلم والوعظ، ذلك أن بصمات هؤلاء الوعاظ/العلماء - باستثناء أمثال من ذكرنا أسماءهم- على تطوير العلوم الإسلامية وتقدمها محدود للغاية، فالنجاح في دورٍ عادة يهمش أو يقلل من الإبداع في الدور الآخر كلما اجتمعا في شخص واحد. ولذلك كان كبار العلماء أمثال الشافعي وأبي حنيفة -رحمهم الله- ليس لهم مجالس للوعظ، وكبار الوعاظ ليس لهم مجالس علم مثل الحارث المحاسبي.

غير أن وجود تمايز في الأدوار لا يعني أن أحدهما يَفضل الآخر، فكلاهما يؤدي مهمة جليلة، وأحدهما ليس له "قيام" دون الآخر، وهو ما قاله عالم الاجتماع "جورج ميد" في نظريته عن "الدور" التي ترى أيضا أن الدور لا يوجد من دون الأدوار الأخرى؛ لأن مفهوم الدور أساسا لا يتحقق إلا في إطار جماعة. ولهذا كان الباقلاني والإسفراييني (عالما الكلام الكبيران) يسمعان مجلس ابن سمعون -الذي قيل: إنه "لم يأت في الوعاظ مثله"- بل أكثر من ذلك يقبلان يده! (كما ذكر صاحب شذرات الذهب).

وكما يبدو من تاريخنا فإن كلا من هذه الأدوار يكاد يكون جوهرا ثابتا، لم يتغير طيلة هذا التاريخ المديد، وعلى هذا فإن الأدوار في الثقافة الإسلامية تقوم على جواهر ثابتة لا يغيرها أو يحورها التفاعل بينها، وهو أمر يتفق بشكل ما مع نظرية عالم الاجتماع "رالف لنتن" التي أطلقها عام 1936م. وطبقا لهذه النظرية فإن شرح الدور والتعريف به يتم ضمن "النظام الثقافي" السائد، وهو بالنسبة لنا هنا إسلامي، وعلى أساس علاقته بالأدوار الأخرى فيه؛ وقد بنينا نحن توضيحاتنا بشأن كل من الأدوار على أساس علاقاتهم ببعضهم (إنشاء المعرفة وتوصيلها وضبط مشروعيتها).


المقال في صحيفة الغد الأردنية على الوصلة:
http://www.alghad.jo/?news=152614

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير