تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد ذهب بعض المفسرين المعاصرين إلى إنكار دخول الجن بدن الإنس، واتبعوا في تفسير آية البقرة: 275 نفس المنهج الذي سلكه صاحب الكشاف، ومن هؤلاء الشيخ طنطاوي جوهري [7] وأحمد مصطفى المراغي [8]، كما أنكر كل من الشيخين محمد الغزالي ومحمود شلتوت دخول الجن بدن الإنس وصرعه له، وهكذا نرى الإمام الغزالي يحصر عداوة الشيطان للإنسان في الوسوسة والخداع والاستغفال، وينكر تلبس الجن بالإنس، ويعتبر هذا الاعتقاد من الأوهام والخرافات التي انتشرت بين الناس، وإن ذكره علماء ثقاة، أمثال ابن حنبل وابن تيمية [9]، ويستشهد بكلام كل من البيضاوي ومحمد رشيد رضا [10]،في تفسيرهما لآية البقرة، وفي تفسيره لحديث "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" يقول: "الحديث ليس له صلة باحتلال الشيطان لجسم الإنسان، وظاهره يدل على قدرة الشيطان على الوسوسة، والرسول عليه الصلاة والسلام يريد منع الوسوسة التي قد يلقيها الشيطان" [11]، ونفس المذهب سلكه الشيخ محمود شلتوت عندما قال: «ليس للجن مع الإنسان شيء وراء الدعوة والوعد والوسوسة والإغراء والتزيين»، نافيا بذلك قدرة الجن على التلبس بجسم الإنس، والنطق على لسانه، والتحرك بحركته [12]، مستنتجا أن «هذا من أوهام الناس، ومصدره خارج عن المصادر الشرعية، ذات القطع واليقين».

في المقابل، هناك ادعاءات كثيرة برؤية الجن، والزواج بالجن، وتلبس الجن بالإنس ... ومعظم هذه الدعاوى، يقول يوسف القرضاوي، باطلة، ويضيف: كثير من الناس ممن يدّعي أنه ركبه الجني أو العفريت أو نحو ذلك هم يعانون أمراضا عصبية ونفسية، مثل ازدواج الشخصية، ونحو ذلك، ولا علاقة للجن بهذه الموضوعات.

لقد فسر كل واحد من العلماء دخول الجن بدن الإنس حسب فهمه لمدلول "الشيطان" و"الجن"، وحسب تأويله لسياق آية البقرة، المذكورة، وربطها بالأفكار المسبقة أو الخلفية الفكرية للذهنية الجماعية العربية.

بالنسبة لابن حنبل وابن تيمية وابن باز، ومن نهج نهجهم، فحركات المصروع وكلامه كافيان لإثبات هذا التلبس، ولم يكن بإمكانهم أن يتصوروا مرضا أو سببا آخر يمكنه أن يحدث حركات متخبطة وكلام غير معقول ...

لكن العلم اليوم أثبت أن هناك أشياء أخرى كثيرة، ليست بالضرورة جنا، يمكنها فعل ذلك وأكثر، كخلل في الدماغ، أو نقص في مادة الدوبامين، أو مخدر الكوكايين، أو غاز الطابان أو الساران [13]، أو العديد من الميكروبات الأخرى [14] ... كلها بإمكانها أن تحدث الهلوسة والتشنجات، وتخرج الإنسان عن طبيعته السوية، بل قد تؤدي به إلى الهلاك ...

أما الزمخشرى، ومن تبعه في تفسيره، فإنه يرى بأن الفكر العربي أخطأ عندما ربط الصرع بالجن، وبالتالي ترسخ لديه أن هذا المرض من تسلط الجن. ذلك أن القرآن خاطب العرب على قدر عقولهم، انطلاقا مما يعتقدون ويفهمون، فقط ليقرب لهم الصورة ولينفرهم من أكل الربا وعقوبته في الآخرة، وأن لا علاقة عضوية بين الموضوعين (الجن والصرع)، لأن الشيطان، بالنسبة للزمخشري وصحبه، ليس بتلك القوة الشريرة التي تستطيع أن تصيب الناس بالمرض والموت، وتأثيره لا يتعدى حدود الوسوسة والإغواء والتزيين، ومن يوسوس عاجز عن أن يخبط، وأعجز من أن يحدث في من يوسوس تغييرا عقليا أوجسميا، ودليل ذلك قوله تعالى:) وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ((إبراهيم/) 22.

قالوا، أولا، الآية صريحة في أنه ليس للشيطان قدرة على الصرع والإيذاء والقتل، وأن الله تعالى لم يجعل له سبيلاً على الناس إلا أن يوسوس في صدورهم، ثم حاولوا استعمال المنطق لفهم هذه الإشكالية فقالوا، ثانيا، بأن الشيطان إما أن يكون جسماً كثيفاً أو جسماً لطيفاً: فإن كان جسماً كثيفاً فلا بد أن يُرى ويشاهد، وهو لا يرى، ولو كان كثيفاً لتعذر عليه دخول بدن الإنسان، وإن كان جسماً لطيفاً كالهواء فمثل هذا يمتنع أن يكون فيه قوة وصلابة، وبالتالي يستحيل أن تكون لديه قدرة على أن يصرع الإنسان أو يمرضه أو يقتله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير