تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لكن اللغة العربية كما يشهد التاريخ لم تعمر في كثير من البلاد التي دخلت في سلطان العرب إلا قرونا معدودة. فأين دور النحو في حفظها من الزوال من تلك البلدان؟

3ـ ويزعم كذلك أن النحو جاء لتعليم الداخلين في الإسلام من غير العرب اللغة العربية. لكننا نعرف أن كثيرا من المسلمين عربا وغير عرب لم يحذقوا اللغة العربية الفصحى. واقتصرت معرفتها على فئة المتعلمين الذين لا يمكن أن يقارن عددهم بعدد أولئك الذين لم تتح لهم فرصة التعلم.

4ـ ويزعم النحو أنه جاء لوصف اللغة العربية الفصحى وصفا شاملا. لكن الواقع أنه لم يصف كل ما قالته العرب حتى في حدود الفصحى. فقد قصر اهتمامه على ما قاله الشعراء الذين ينتمون إلى بعض القبائل العربية فقط، واستثنى النحويون، كما ورد عنهم، كثيرا من المتكلمين بالعربية حتى في نطاق الفصحى، بل إنهم جعلوا القرآن مصدرا ثانيا للعربية، ولم يعتدوا بالقراءات والحديث كذلك.

وزيادة على ذلك فإن النحو لم يصف اللغة العربية الفصحى وصفا جيدا في كثير من الأحيان. والدليل على ذلك أن كثيرا من القواعد النحوية لا تتصف بالعمومية. وهناك كثير من الاستثناءات للقواعد المقترحة، وكثير من القواعد التي لا يمكن أن تكون وصفا صحيحا لبعض الظواهر اللغوية.

5ـ كما أنه فشل في العصر الحديث في أبرز المهمات التي يزعم أنه جاء من أجلها. وهي تعليم اللغة. فنحن نشهد فشلا ذريعا في تعلم اللغة العربية، وذلك على الرغم من تعليم النحو بكثافة أحيانا في مختلف المراحل الدراسية. بل إن كثيرا من الطلاب في أقسام اللغة العربية لا يجيدون استعمال قواعده، بل إن أكثرهم لا يجيدها حتى في المستويات المتقدمة من سلم التخصص.

ويضاف إلى ذلك أن الأكثرية من المبدعين في اللغة من كتّاب وشعراء وروائيين لا يتذكرون من قواعده شيئا. بل إن كثيرا من المثقفين لا يحسنون القواعد الأساسية فيه. أما التمكن من اللغة الذي تشهد به إبداعات هؤلاء، وهو ما يشهد باكتسابهم القواعد الأساسية للغة اكتسابا طبيعيا، فقد جاء من قراءة الآثار الأدبية لا من النحو.

وقد روي عن ابن خلدون أن الكتب الأساسية في تعلم الأدب أربعة، ولم يعد من بينها كتابا نحويا واحدا إلا كتاب الكامل وذلك لما يحويه من نصوص أدبية.

ويتبيّن مما تقدم أن النحو فشل في الوفاء بالمهمات كلها التي زعم أنه جاء من أجلها. ولذلك فإن السمعة التي يتمتع بها لا مسوغ لها.

بل إنني أزعم أن النحو بصورته المعيارية كان سببا في إبعاد الناس عن لغتهم، وإكساب اللغة صورة مشوهة في نظر أكثر العرب. فلم يعد كثير من العرب ينظرون إلى اللغة العربية لغة لهم بل يعدها أغلبهم تخصصا علميا لا يعنى به إلا قلة من الذين لا يحسنون الانخراط في التخصصات الأخرى.

ويتصف النحو بأنه أداة لقمع حرية المتكلمين. فوظيفته الأولى منع الناس من أن يتكلموا بحرية، وليس لهم أن يتكلموا إذا أرادوا أن يتكلموا إلا على نمط واحد يجب عليهم أن يتذكروا قواعده. كما أنه يقوم على غرس عدم الثقة عند المتكلمين بمعرفتهم عن لغتهم. فهو يقوم على المنع أولاً، والتخويف من الخطأ ثانيا. ولا أدل على ذلك من القول الذي يروى عن عبد الملك بن مروان (وأكثر الاحتمال أنه من اختراع النحاة) أن توقي اللحن كان أحد الأسباب الرئيسة التي نتج عنها شيب عارضيه.

وكان النحو أداة من أدوات التحيز اللغوي والعرقي. فالسبب الأول في فساد اللغة، في رأي النحو، إنما هو دخول الأعاجم في الإسلام. وكأني ببعض النحويين الذين يزعمون هذا الزعم يودون في دواخل أنفسهم أن لو لم يدخل أولئك الأعاجم الإسلام حتى لا يفسدوا صفاء العرب والعربية. وزيادة على أن هذا الموقف ربما يدخل في باب العنصرية فهو موقف يكاد يكون ضدا لرسالة الإسلام الذي جاء للناس كافة.

فما دام النحو على هذه الصورة، ألا يمكن عده ميتا؟ ألا يدل هذا على أن النحو المعياري لا يمكن أن يكون وصفا للغة ولا يمكن تبعا لذلك أن تترك له هذه الهيمنة غير المسبوقة على ضمائر الناس ومصائرهم؟ أيمكن أن يترك النحو على هذه الصورة حائلا بيننا وبين لغتنا؟ أيمكن أن يتوقف وصف اللغة العربية على تلك المحاولات الأولى التي لم تخضع لما تخضع له النظريات العلمية التي تسعى للوصف والتفسير والتجريب واقتراح البدائل؟ أيمكن أن يكون ما قاله النحاة الأقدمون قولا نهائيا لا محيد عنه ولا بديل له؟

ومحصلة القول إن النحو العربي لم يعد حيا منذ أواخر القرن الرابع على أكثر التقدير. أما اللغة العربية فقد ظلت حية تتمثل في نصوصها الخالدة التي يأتي القرآن الكريم في مقدمتها، ثم الحديث، والشعر العربي منذ الجاهلية إلى اليوم، وأنواع الإنتاج اللغوي الأدبي والفلسفي والعلمي. بل إن أعظم فترات ازدهار اللغة العربية التي وصلت فيها إلى مرتبة اللغة العالمية كانت بعد الفترة التي منع عندها النحاة الاحتجاج بنصوص اللغة العربية الحية.

أما الذي حفظ اللغة العربية من الاندثار فأسباب كثيرة، وأولها ارتباطها بالقرآن الكريم، وارتباطها بثقافة حضارة كبرى استمرت عصورا مديدة وأنتجت نتاجا أدبيا وعلميا راقيا. ولم يكن النحو من بين تلك الأسباب.


* نشرت في جريدة الرياض، ثقافة اليوم، 14/ 8/1419هـ

العودة إلى الصفحة الرئيسة العودة إلى صفحة المقالات منتدى المناقشات سجل الزوار

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير