تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[النحاة لم يفسدوا اللغة]

ـ[عاشق التراث]ــــــــ[29 - 05 - 2009, 08:45 م]ـ

[النحاة لم يفسدوا اللغة]

النحاة لم يفسدوا اللغة، وإنما أفسدها الذين جهلوا ما قدمه النحاة من محاولات عديدة أقل ما تُوصف به أنها محاولة علمية من الدرجة الأولى .. وقد أحزنني ما قرأت من كلام الدكتور علي فهمي خشيم، وما لمست فيه من جرأة ومبالغة لا مبرر لهما من اتهام النحاة بإفساد اللغة، وقد ذكّرني هذا الكلام غير المنضبط علميّاً بما قاله كثيرون من قبله أمثال سلامة موسى، ودريني خشبة، ولويس عوض، وشريف الشوباشي.

الذي أفسد اللغة هم الذين لا يستطيعون أن يقفوا على الدور الفعَّال الذي قدمه علماء العربية متمثلاً في أنظمتها المختلفة، ولست في هذا المقام معنيّاً بالدفاع عن النحاة - وأشرف بالدفاع عنهم بلا شك - لكنني أحاول أن أقرأ سر هذا الهجوم المتلاحق على النحاة من حين إلى آخر.

النحاة - يا سادة - هم أصحاب اليد الطولى في الحفاظ على هوية العربية ثابتة عتية طوال القرون الخوالي، فهم بحق أمراء الكلام وملوكه - كما كان الشعراء أمراء البيان - وإني لأستغرب من هؤلاء الذين لا يملون من الغمز واللمز- وحُق لي - لكي يقللوا الجهد الكبير الذي قدمه الأكابر، مرة عندما قالوا بأن هذا التراث النحوي إنما هو تراث منسلخ من تراث حضارات أخرى؛ كالنحو اليوناني، والهندي، والفارسي، ولست أدّعي أن العربية لم تتأثر بهذه الحضارات فليس لجاهل أن يقول ذلك، فعدم التأثير والتأثر يُعد دليلاً سلبيّاً على نهضة الأمم، وكما هو معلوم في حضارات الأمم أن الأمة القوية هي التي تستطيع أن تمتزج بحضارة الآخرين صانعة لنفسها حضارة متفردة بين الأمم.

يا دكتور علي: اتّق الله في النحاة، وألق نظرة بعين الرضا على مستويات العربية، فأي نظام صوتي استطاعوا أن يصفوه لنا بدقة متناهية من مخارج وصفات وخصائص للصوت دون أن يعتمدوا على المعامل الصوتية الحديثة الموجودة الآن والتي شهدت بعبقرية العرب، وانظر إلى النظام الصرفي وعلى الميزان الصرفي تحديداً فهو يُعد قفزة من قفزات العلوم الإنسانية، وكيف أن هؤلاء النحاة الذين تسخر منهم قد استطاعوا أن يخضعوا جميع الكلمات التي يدخلها علم الصرف لميزان معياري منضبط لدرجة عالية جدّاً، إضافة إلى نظام التحليل الصرفي في العربية حيث إنه يُعد من الأنظمة الرائدة، كذلك حديثهم عن المورفيم ووظائفه وأنماطه ودلالاته.

أزعم - وليت هناك من يكذب زعمي - أنه نظام لم يُتح لأي لغة بهذا الضبط، في الوقت الذي يمر فيه النظام الصرفي الغربي بالعديد من الأنظمة والمناهج غير المنضبطة من وجهة نظري.

ولا أريد أن أقدم هنا شرحاً كاملاً للجهد الصرفي فيكفي الدكتور علي فهمي أن ينظر إلى قضايا الإعلال والإبدال والإدغام حتى يدرك بحق إذا كان هؤلاء مفسدين أم عباقرة الإصلاح.

أما عن النظام النحوي الذي اتهم أصحابه بالإفساد فليس هناك نظام نحوي على مستوى اللغات الأخرى أكثر كفاءة من النظام العربي، وليس هذا من قبيل التعصب؛ بل هو شيء ملموس يعرفه أدنى من له اطلاع على نحو اللغة العربية والأنحاء الأخرى، وهو نظام يقوم على علاقة ربط المباني بالمعاني في شبكة متكافئة من العلاقات والأنظمة أتت على نحو بديع، ويكفي حديثهم الخالد عن العلاقات المعنوية في البناء النحوي، كعلاقة التبعية، والإسناد، والتخصيص، والمخالفة، وكذلك حديثهم عن العلاقات اللفظية - التي يسميها شيخي تمام حسان بالقرائن - كعلاقة الإعراب، والرتبة، والصيغة، والمطابقة، والربط، والتضام، والأداة، والتنغيم - وإن كان الأخير لم يكن بمستوى الكثرة مقارنة بما حظيت به القرائن الأخرى من الاهتمام.

ولعلي أحيل القارئ الفاضل إلى ما قاله النحوي العبقري الشيخ عبد القاهر الجرجاني في دلائله، يقول الشيخ للذين يقللون قيمة النحو: (وأما النّحوُ فظنَّتهُ ضرباً منَ التكلُّف وباباً من التعسُّفِ وشيئاً لا يستندُ إِلى أصلٍ ولا يُعتمدُ فيه على عقلٍ .. وأنَّ ما زادَ منه على معرفةِ الرَّفعِ والنَّصبِ وما يتصلُ بذلك مما تجدُهُ في المبادىء فهو فضلٌ لا يُجدي نفعاً ولا تحصَلُ منه على فائدةٍ .. وضَرَبُوا له المثَلَ بالمِلْح - كما عرفت - إِلى أشباهٍ لهذه الظُّنونِ في القَبيلينِ وآراءٍ لو عَلموا مَغَبَّتها وما تقودُ إِليه لَتَعَوَّذوا باللّهِ منها

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير