تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأرجو ألا يبادر أحد بالاحتجاج على قولي بموت النحو. إذ يجب على الذين يتحفزون للاحتجاج على هذه المقولة أن يتأملوا أوَّلا ما فعله النحو بنا. وسوف يجد هؤلاء حين ينعمون النظر أن النحو هو الأحق باللوم. كما سيتبين لهم أيضا أن قولي بموت النحو لا يعد أمرا خطيرا إذا قيس بمزاعم النحو عن العربية ومتكلميها منذ أقدم العصور.

فنحن نعرف جميعا أن النحو سبق أن زعم، منذ بداياته الأولى، أشياء عن العربية ومتكلميها أشنع وأبعد خطرا مما أقوله هنا.

ومن أهم تلك المزاعم أن اللغة العربية دخلها الفساد وهي في بداية أعظم فترات الازدهار التي مرت بها في تاريخها كله. فقد عُلِّمنا منذ الصغر أن النحو لم يقم في الأساس إلا بحجة أن اللغة العربية فسدت، ومعنى الفساد التغير نحو الأسوأ، وهو نذير الموت.

بل لقد زعم النحو أن اللغة العربية نفسها ماتت فعلا؛ ولهذا السبب فقد قصر الاحتجاج للغة والنحو على كلام العرب الذين عاشوا قبل منتصف القرن الثاني الهجري، ومنع الاحتجاج بكلام العرب الذين عاشوا بعد ذلك. وهو ما يعني أن اللغة العربية صارت منذ ذلك التاريخ لغة أناس آخرين. أما العرب منذ تلك الفترة فعليهم جميعا، إلى قيام الساعة، أن يوطنوا أنفسهم على التسليم بأن هذه اللغة ليست لغة لهم بل هي لغة أجنبية وعليهم أن يتعلموها بصفتها لغة أجنبية ميتة وذلك أن من كانوا يتكلمونها ماتوا قبل منتصف القرن الثاني الهجري.

ولم تقطع صلة العرب بلغتهم في الفترة المبكرة للدراسة النحوية وحدها، وإنما استمر نفي النحو لهذه الصلة بين العرب ولغتهم طوال العصور. وليس أدل على ملازمة هذا الادعاء للدراسة النحوية واستمراره إلى العصر الحاضر من وصف عباس حسن العرب المعاصرين بـ"المستعربين" (النحو الوافي، ج1، ص ص 1ـ2).

وهكذا نشهد النحو لا يكتفي بوصف العرب بالعجز اللغوي بل يخرجهم من هويتهم، وهو أخطر؛ فهم لم يعودوا، منذ أواسط القرن الثاني عربا بل صاروا منذ ذلك الحين إلى الآن "مستعربين"، وعليهم الرضا بذلك. فالنحو إذن لم يمت اللغة العربية فقط وإنما أمات العرب كذلك وجعلهم أمة من المستعربين.

ولو كانت مزاعم النحو هذه صحيحة لهان الخطب؛ لكنها كلها ليست صحيحة.

أفلا يحق لي إذن، انتصارا للعرب قديمهم وحديثهم، أن أبين خطأ هذه المواقف النحوية من اللغة العربية والعرب؟

أفلا يحق للعرب إذن أن ينتصفوا لأنفسهم فيميتوا النحو الذي شنع عليهم وعلى لغتهم وصورهم أمة من العاجزين لغويا، بل أماتهم وأمات لغتهم، فعلا لا ادعاء؟

ومن العجيب أن يزعم النحو هذه المزاعم الخارقة عن العرب وعن لغتهم مع أنه هو الذي يجب وصفه بالموت. وذلك أنه فشل في المهمات كلها التي نذر نفسه لها. ويمكن ذكر الأوجه التالية من أوجه فشل النحو:

1ـ يزعم النحو أن العرب، كلهم، كانوا قبل الإسلام يتكلمون في جزيرتهم اللغة العربية الفصحى بكل سماتها التي نعرفها في القرآن الكريم والشعر الجاهلي، ومن أهمها الإعراب. ولما دخل غير العرب في الإسلام بعد الفتوح انحل نظام العربية بسبب الداخلين في سلطان العرب من غير العرب. ولذلك يزعم أن النحو جاء ليوقف هذا الفساد السريع الذي أصيب به نظام اللغة.

لكننا نشهد اليوم ومنذ قرون، بل منذ الفترات المبكرة في تاريخ اللغة العربية، وفي كل فترة روي لنا شيء عن النوع اللغوي الذي كان يستخدم فيها، أن العرب، في أقطارهم كلها ومنها الجزيرة العربية، ظلوا يتكلمون أنواعا من العربية تختلف في بعض خصائصها عن اللغة العربية الفصحى وبخاصة فيما يتعلق بالإعراب.

فإذا كان تصوير النحو للوضع اللغوي في الجزيرة العربية في الجاهلية وصدر الإسلام صحيحا فإن الأنواع اللغوية التي حدثت بعد الإسلام إنما هي نتيجة للتغير الذي يسميه النحو فسادا لغويا. وبما أن النحو يزعم أنه إنما نشأ لإصلاح ذلك الفساد فإن وجود هذه الأنواع دليل على أن النحو لم يستطع أن ينجز شيئا يمنع هذا الفساد المزعوم.

2ـ وكثيرا ما يزعم أن قوله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" يعني وعدا بالحفاظ على اللغة العربية من الاندثار. ويقال أيضا إن من وسائل حفظ اللغة العربية أنه هيأ لها علماء النحو الذين عملوا على تأسيسه ليكون الأداة الأولى لحفظ اللغة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير