ومن المعلوم كذلك أن الألف التي نقف بها في "كِتَابَا" مُبْدَلةٌ من التنوين الذي كان في الوصل ("كِتابَنْ"). أما الألف التي نقف بها في "فَتَى" و"عَصَا"، فالراجح أنها هي الألف الأصلية التي كانت في "الفَتَى" و"العَصَا"؛ ولكنّها تُحذف في الوصل لالتقاء الساكنين؛ إذ الأصلُ أن تُلفَظا: "فَتَانْ" و"عَصَانْ"، ولكنّهما تُلفظان: "فَتَنْ" و"عَصَنْ"، لئلاّ يلتقي ساكنان.
3 -
ومن جهة أخرى، نعلم أن الكتابات العربية الأولى كانت خالية من النقط والشكل، وأن أبا الأسْوَد الدُّؤَليّ (ت 69 ه) – على الأرجح – كان أوّل من ابتدأ الشكل، بوضع نُقَط تدُلُّ على الحرَكات والتَّنْوِين، حين قال لكاتبه: ” خُذِ المصحف، وصِبْغاً يُخالِفُ المِدَادَ. فإذا فَتَحْتُ شَفَتَيَّ فانقُطْ واحدةً فوْقَ الحَرْف، وإذا ضَمَمْتُهما فاجعَلِ النَّقطةَ إلى جانب الحَرْف، وإذا كَسَرْتُهما فاجعَلِ النَّقطةَ في أسفَلِه، فإنْ أَتْبَعْتُ شيئاً مِن هذه الحرَكاتِ غُنَّةً (يقصد التنوين) فانقُطْ نُقطتَيْن “.
وحين اقترح الخليل بن أحمد (ت 170 أو 175 ه) تعويض نُقَطِ أبي الأَسْوَد بعلاماتِ الحرَكات التي نستعملُها اليوم، حافظ على منهجيته في التنوين، فجعل علامته: تكرار الحركة السابقة، بحيث نحصل على علامتين متشابهتين (فتحتَيْن أو ضمَّتَيْن أو كسرتَيْن)، إحداهما للحركة والثانية للتنوين.
4 -
ولقد كان بإمكان الخليل افتراح علامة جديدة للتنوين، كأن يُشير إليه بنُونٍ صغيرة على سبيل المثال. ولو فعل ذلك، لكان يُكتَفى في الحرف المنوّن بحركة واحدة، ولكانت النون الصغيرة تُوضَعُ في ثلاثة مواضع مختلفة:
* بعد الحرف المنوّن في "كِتابٌ" و"كِتابٍ" (على غرار الواو والياء الصغيرتين اللتين نجدهما في المصاحف بعد هاء الغائب).
* وفوق الألف في "كتابا" (لأن هذه الألف هي التي تُبْدَلُ من التنوين في الوقف).
* وبعد الألف في "فتى" و"عصا" (لأن التنوين في الأصل كان بعد الألف، ثم حُذفت الألف لالتفاء الساكنين).
5 -
بيد أن الخليل آثر الحفاظ على منهجية أبي الأسْوَد كما سبق، ولم يَسْتَسِغِ الفصل بين العلامتين المتشابهتين (علامة الحركة وعلامة التنوين)، لشدّة الارتباط بين الحركة والتنوين، فجعل كِلْتا الضّمّتَيْن فوق الحرف المنوّن في نحو "كِتابٌ"، وجعل كِلْتا الكسرتَيْن تحت الحرف المنوّن في نحو "كِتابٍ". وبقيت مشكلة الفتحتين (اللتين لولا كراهة الفصل بينهما، لوُضِعت أُولاهما على الحرف المنوّن، ولوُضِعت الثانية فوق الألف في نحو "كتابا"، وبعده في نحو "فتى" و"عصا").
6 -
فما العمل؟
* لقد ذهب الخليل وأصحابه إلى وضع كلتا الفتحتَيْن فوق الحرف المُنوَّن نَفْسِه؛ هكذا:
كِتابًا – فَتًى – عَصًا
وعلى هذا تُضبَط المصاحف المشرقية، ولا سِيّما التي تُعتَمد فيها رواية حفص عن عاصم. ويُؤيّده الإجماع على وضع الفتحتين فوق التاء المربوطة في نحو "شَجَرةً".
* وذهب يحيى اليَزِيدي (ت 202 ه) إلى وضع كلتا الفتحتَيْن فوق الألف الممدودة أو المقصورة التي تَلِي الحرفَ المُنوَّنَ؛ هكذا:
كِتاباً – فَتىً – عَصاً
واختار هذا نُقّاطُ المدينة والبَصرة والكُوفة. ودافع عنه الإمام أبو عمرو الداني (ت 444 ه) في كتابه "المُحْكَم في نَقْط المصاحف" (ص 60 وما بعدها، بتحقيق الدكتور عزة حسن). وعلى هذا تُضبَط المصاحف المغربية التي تُعتَمد فيها رواية ورش عن نافع، وبعضُ المصاحف المشرقية التي تُعتمَد فيها هذه الرواية.
* واقترح بعضهم وضع فتحة على الحرف المنوّن وأُخرى على الألف، كما اقترح آخرون وضع فتحة على الحرف المنوَّن وفتحتين على الألف؛ ولكن جمهور العلماء لم يلتفتوا إلى هذين الرأيَيْن.
7 -
يقول الإمام محمد بن محمد الأموي الشريشي الشهير بالخرّاز (ت 718 ه)، بعد يبان علامة كل حركة من الحركات الثلاث:
ثُمَّتَ إنْ أتْبَعْتَها تَنْوينَا ... فزِدْ إلَيْها مِثْلَها تَبْيِينَا
وإن تَقِفْ بألِفٍ في النَّصْبِ ... هُما عَلَيْهِ في أصَحِّ الكَتْبِ
أي: فهُما عليه، أي: على الألف. ثمّ يقول:
وإن يكُنْ ياءً كَنَحْوِ "مُفْتَرَى" ... هُما على الياءِ، كذا النَّصُّ سَرَى
وقيل: في الحَرْفِ الذي مِن قَبْلُ ... حَسَبَ ما اليَوْمَ عَلَيْهِ الشَّكْلُ
ويظهر من البيت الأخير: أن مذهب الخليل كان هو الشائع في عصر الخرّاز، في غير المصحف الشريف.
* * * * *
فالمسألة – كما نرى – خلافيّة. فيُستحسَنُ الابتعاد فيها عن مصطلحَيِ "الخطإ" و"الصواب"، ولا سِيّما في موقع ينتمي مُتصفِّحوه إلى بُلدان شَتّى، قد تختلف مواقف مناهجها التعليمية من المسألة. والله أعلم.
ملحوظة: بعضهم يقول: (لا يجوز وضع التنوين على الألف، لأن الألف ساكنة، والتنوين ساكن، والساكنان لا يجتمعان).
وهذا تحليل غير مقنع؛ إذ يمكن القول قياسا عليه: (وإذا وضعنا التنوين فوق الحرف السابق، فكأننا وضعنا سكونا قبل الألف، فيجتمع ساكنان أيضا).
¥