فالذي فهمته من قول الشيخ رحمه الله هو أن الفرق بين الفصيح وغيره هو الملكة, والملكة المعنية هنا شيء أكبر من الملكة اللغوية, فلنسمها "الملكة الفصيحة", لأن الملكة اللغوية في كل من تكلم لغة ما فأتقنها من حيث ماهيتها, حسب رأيي, أي ليس من الضروري أن يكون هذا المتكلم حافظا لآلاف من الألفاظ ومتمكنا من القواعد النحوية والصرفية المعقدة والتراكيب اللغوية والقوالب التركيبية, بل يكفي أن يكون عنده حاسة لغوية تجعله يتميز عن الأعجمي المتعلم بتمييزه بين دقائق الكلمات والمعاني الخفية لبعضها, وأروي في ذلك أن كثيرا ممن يترجمون إلى العربية من الأعاجم لا يملكون هذه الملكة, وهذه الملكة قابلة للتملك, فيفتحون المعجم لترجمة كلمة ما فيجدون أمامهم لكلمة واحدة, وذلك لغنى العربية, مترادفات كثيرة, فلا يعرفون أيها يستعملون, وصاحب الملكة يعرف ما يختار منها بنظرة واحدة ويعرف الفروق بينها.
أما صاحب الملكة الفصيحة, حسب رأيي, فليس يكفي أن يعرف أي كلمة يترجم بها, أي من لغة أخرى إلى لغته, بل يجب أن يعرف كيف يأخذ من زاده اللغوي إلى كلامه, أي من معجمه اللغوي الخاص إلى منطوقه, فليس أمام لغتين بل أمام لغة واحدة هي لغته التي يتكلم بها, فيعرف أي الألفاظ يختار ويعرف المعاني التي تعبر عنها والدقائق التي تميزها, وكيف تؤدي هذه الألفاظ والعبارات معنى بعينه يتميز عن التعبيرات المماثلة بالفصاحة, فلا يحس السامع تكلفا فيما يقول ولا تقعرا ولا تعقيدا ولا تأتآت, وهذا مطلب عزيز وخاصة في عصرنا هذا, بسبب تعود اللسان على العامية, ولو تلاحظ أن مقدمي نشرات الأخبار مهما يكونوا طلقاء في الكلام ما داموا يقرؤون من ورقة, فما إن يجدوا أنفسهم يتكلمون من دونها حتى تبدأ التأتآت والهمهمات.
والفصيح لا يتميز عن غيره بتعقد التراكيب واستعصائها على السامع, بل يتميز على عكس ذلك بأن السامع, الذي يفترض منه أن يكون عربي اللسان على سبيل المثال, يحس وهو يستمع إليه أن الكلام على نسق واحد لا تكلف فيه ولا تعقيد, سهل الفهم وكل كلمة في محلها تعبر عن معنى بعينه, وهذا نجده في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما نجد. ففي حديثه المشهور حديث ابن عباس يخاطب صلى الله عليه وسلم غلاما صغيرا فيقول له كلاما, وصفه بعض العلماء فيما بعد أنه على بساطته فعقله كاد يطيش لما تأمله, فهو كلام يفهمه الصغير والكبير, بسيط جامع موجه سلس الألفاظ والمعاني يأخذ منه كل حسب ما يستطيع, فتأملوا الحديث حفظكم الله:
كنت خلف رسول الله صلى اللهع ليه وسلم يوما قال يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك بشيء إلا قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، (رفعت الأقلام وجفت الصحف)
فهذا كلام فصيح من رسول هو أفصح العرب بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك القرآن الكريم, رغم استعصائه اليوم على المتكلمين بلغته بسبب بعدهم عنها, فإن العارفين بالعربية يعرفون لم هو معجز, لأن السامع لا يرى فيه تعقيدا, يراه سهلا بسيطا, ولكنه لا يستطيع أن يأتي بمثله, شيئا فوق قدرات البشر اللغوية. وهذا الذي ألجم فصحاء قريش والعرب حتى زعموا كفرا أنه سحر.
لنترك المستوى اللغوي في القرآن والسنة لأنهما حالتات خاصتان, ولكن عليهما لنقس, فالفصيح من يتأسى بهما في كلامه فيفعل ذلك دون تكلف ودون تجهد ودون تحامل على اللغة, فتحس أنه يقول ما يقول كشربة ماء يشربها, وقل أن يوجد هذا في الشعر, بسبب أن الشعر تكلف في ذاته, ولكن يوجد في الخطابة وغيرها كثير منه, فبالكلمات القليلة يعبر عن المعاني الجمة الخالدة, كقول عمر "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتم أحرار", فهذا قول فصيح توارثته الأجيال لحسنه وفصاحته, حتى بات حكمة يقولها حتى غير المسلم العارف بالعربية.
هذا تصوري لما فهمته من قول الشيخ, واعذروني لأني لا أقدر على الإتيان بأمثلة من التراث كثيرة بسبب عدم توفر ذلك لدي.
وآمل أن تكون الفكرة قد وضحت, وقولي خطأ يحتمل الصواب وأقوالكم صواب تحتمل الخطأ.
ـ[زينب محمد]ــــــــ[24 - 12 - 2006, 08:27 م]ـ
الحمد لله ..
لقد أذن ربي بالفرج ..
أخي ضاد ..
أحسن الله إليك في الدنيا والآخرة.
بالنسبة لي فهمت بيت القصيد الذي تريد الوصول إليه، وتبينت الفرق.
جزاك ربي خيرًا ..