[الفصاحة وغريب القرآن]
ـ[الجوهري]ــــــــ[09 - 02 - 2007, 02:33 م]ـ
السلام عليكم
كيف نوفق بين كون القرآن فصيحًا، وبين وجود بعض الكلمات الغريبة؟
فالفصاحة في الإصلاح: عبارة عن الألفاظ الظاهرة المعنى المألوفة الاستعمال عند العرب.
ويشترط في فصاحة الكلمة أن تسلم من غرابة الاستعمال، وهو كون الكلمة غير ظاهرة المعنى، ولا مألوفة الاستعمال عند العرب، حتى لا يفهم المراد منها، لاشتراك اللفظ، أو للاحتياج الى مراجعة القواميس.
والقرآن الكريم حوى بعض الألفاظ الغريبة التي توقف عندها المفسرون، مثل كلمة قمطرير، سجين، تفث وغيرها.
ومع أن هذه الألفاظ الغريبة قليلة إلا أنها واقعة في القرآن فكيف نوفق بين الأمرين؟
ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[11 - 02 - 2007, 09:15 م]ـ
الأخ الفاضل الجوهري ..
هذه هي الشبهة الثانية التي يردّدها الطاعنون في لغة القرآن الكريم وفصاحته .. وأراك يا أخي تأتينا بشبهات المشكّكين، واحدة تلو الأخرى، ولا حرج في ذلك، إنْ كان الهدف منها التماس الحقّ، فلا نظنّ بك إلا خيراً، ولا نزكّي على الله أحداً .. ولكنّي أعجب من الذين يطعنون في لغة القرآن الكريم، وهم يعلمون علم اليقين، أنّه الكتاب الذي تحدّى الله به العرب العرباء، فأفحمهم وأخرسهم، وكانوا بذلك عبرة للعالمين؟! فيا ليت شعري ماذا نقول لهؤلاء الأعجمين، الذين إذا تكلّم أحدهم فينطق بالحرف مقلوباً، ويجعل المرفوع منصوباً .. ثمّ يأتينا ليقول: القرآن ليس بفصيح، لأنّ فيه من الكلام الغريب .. وصدق مَن قال: نحن في زمن عجيب، وفي عصر غريب!
فليعلم مَن لا يميز الكلام الغريب من العجيب أنّ الغرابة عند العلماء على وجهين .. يقول الخطابي في كتابه (معالم السنن): "الغريب من الكلام إنّما هو الغامض البعيد من الفهم، كما أنّ الغريب من الناس إنّما هو البعيد عن الوطن المنقطِع عن الأهل .. والغريب من الكلام يُقال به على وجهين: أحدهما: أنْ يُراد به أنّه بعيد المعنى، لا يتناوله الفهم إلا عن بُعدٍ ومعاناة فكر .. والوجه الآخر: أنْ يُراد به كلام مَن بَعُدَت به الدار من شواذّ قبائل العرب .. فإذا وقعت إلينا الكلمة من لغاتهم استغربنا" ..
والغريب في القرآن الكريم إنّما هو من النوع الثاني، وهو الذي لا يُخلّ بفصاحته .. فالقرآن لم يستعمل إلا ما تعارف استعماله عند العرب وتداولوه فيما بينهم .. ولكن في طبقة أعلى وأرفع من حدّ الابتذال العامي .. "فلا استعمل الوحشيّ الغريب، ولا العاميّ السخيف المرتذل"، على حدّ تعبير الإمام عبد القاهر الجرجاني في (أسرار البلاغة) ..
قال التفتازاني: "والغرابة كون الكلمة وحشيّة، غير ظاهرة المعنى، ولا مأنوسة الاستعمال .. فمنه ما يُحتاج في معرفته إلى أنْ يُنقر، ويُبحث عنه في كتب اللغة المبسوطة .. كـ (تكأكأتم) و (افرنقعوا)، في قول عيسى بن عمر النحوي، هاجت به مرة وسقط من حماره، فوثب إليه قوم يعصرون إبهامه، ويؤذون في أذنه، فأفلت من أيديهم وقال: مالكم تكأكأتم عليّ كما تتكأكأون على ذي جنة، افرنقعوا عنّي" .. فجعل الناس ينظرون إليه ويقول بعضهم لبعض: دعوه فإنّ شيطانه يتكلّم بالهندية" ..
وقال: "ومنه ما يحتاج إلى أن يخرج له وجه بعيد، نحو مسرج في قول العجاج: "ومقلّة وحاجباً مزججا * وفاحماً ومرسناً مسرجا"، لم يُعلم أنّه مأخوذ من السيف السريجي في الدقّة والاستواء، أو من السراج في البريق واللمعان" ..
ثمّ قال: "والوحشيّ قسمان: غريب حسن، وغريب قبيح .. فالغريب الحسن هو الذي لا يُعاب استعماله على العرب، لأنّه لم يكن وحشيّاً عندهم، وذلك مثل شرنبث واشمخر واقمطر، وهي في النظم أحسن منه في النثر .. ومنه غريب القرآن والحديث .. والغريب القبيح يُعاب استعماله مطلقاً - حتى على العرب - ويُسمّى الوحشيّ الغليظ، وهو أنْ يكون غريب الاستعمال، ثقيلاً على السمع، كريهاً على الذوق، ويُسمّى المتوعّر أيضاً .. وذلك مثل: جحيش، واطلخم الأمر، وجفخت، وأمثال ذلك" ..
والخلاصة أنّ القرآن الكريم كما أنّه يترفّع عن الاسترسال العاميّ المرتذل، فإنّه يبتعد كذلك عن استعمال غرائب الألفاظ المتوعّرة بمعنى وحشيّتها .. فلا تجد فيه ألفاظاً غير مأنوسة أو مألوفة في متعارف أهل اللسان .. وهذا هو عين ما بيّنه الخطابي في قوله: "ليست الغرابة ممّا اشترطت في حدود البلاغة، وإنّما يكثر وحشيّ الغريب في كلام الأوحاش من الناس، والأجلاف من جفاة العرب، الذين يذهبون مذاهب العنهجية، ولا يعرفون تقطيع الكلام وتنزيله والتخيّر له، وليس ذلك معدوداً في النوع الأفضل من أنواعه، وإنّما المختار منه النمط الأقصد الذي جاء به القرآن الكريم، وهو الذي جمع البلاغة والفخامة إلى العذوبة والسهولة" .. وقال أيضاً: "وقد يُعدّ من ألفاظ الغريب في نعوت الطويل نحو من ستين لفظة أكثرها بشع شنع، كالعشنق، والعشنط، والعنطنط، والشوقب، والشوذب والسهلب، والقوق والقاق، والطوط، والطاط ... فاصطلح أهل البلاغة على نبذها، وترك استعمالها في مرسل الكلام، واستعملوا الطويل، وهذا يدلّك على أنّ البلاغة لا تعبأ بالغرابة، ولا تعمل بها شيئاً" ..
وبالجملة، فإنّ الغريب الذي جاء في القرآن الكريم هو العذب والوحش السائغ، الذي أصبح بفضل استعماله ألوفاً، وصار من بعد اصطياده خلوباً .. دون البعيد الركيك والمتوغّر النفور، الذي لمْ يأتِ منه في القرآن شيء .. فالقرآن الكريم اختصّ بإحاطته على عوالي الكلمات الفصحى، وغوالي العبارات العليا، لا إعواز في بيانه، ولا عجز ولا قصور، الأمر الذي ينبئك عن علم شامل بأوضاع اللغة وكرائم الألفاظ، دليلاً على أنّه من ربّ العالمين المحيط بكل شيء ..
¥