ولقد وجدت أن أجود من تحدث عن أسباب سقوط الدول وانحطاطها وانهيارها، هو المؤرخ والعالم "
ابن خلدون " فهو عالم وباحث بارع، ومؤرخ ضليع، ومنظر سياسي من الطراز الأول.
كما وجدت "
الملك عبد العزيز " ذلك الملك الحكيم، والسيد المطاع، والأب المربي، والحاكم السياسي بالواقع والتجربة، يشاطر " ابن خلدون " نفس أفكاره، ويوافقه على منواله في تحليل أسباب سقوط الدول.
ولقد اعتمدت في بيان رأي "
ابن خلدون " على مقدمته العظيمة في التاريخ، ومن خلال الدراسات الاجتماعية التي تناولت آراءه ومنهجه، واعتمدت في بيان رأي " الملك عبد العزيز " على وصية وجدتها بينما كنت أقلب أوراقي، وهي وصية بين أوراق عتيقة يعود تاريخها إلى (1935 م) كتب على واحدة منها هذا العنوان:
(وصية الملك بن سعود لولي عهده)!
وكانت تلك الوصية عبارة عن إرشادات أبوية حانية، وحكمة مجرب، وتوصيات خبير بالسياسة من "
الملك عبد العزيز " -رحمه الله- إلى ابنه وولي عهده الملك سعود -رحمه الله- وهي بحق وصية يجب أن نتدبرها ونعيّ ما بها.
(سقوط الدول وانحطاطها .. قراءة في أقوال ابن خلدون والملك عبد العزيز)
بعد بحث طويل، وعلم غزير، وجهد وجهاد، وتجربة وطول زمان، وجد ابن خلدون أن أهم عوامل انحطاط وسقوط الدول تكمن فيما يلي:
أولاً:
ضعف التأثير الديني.
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
فالدين يُعتبر أهم العوامل في اتحاد الناس وتصريف قضاياهم، فالناس حينما يكون تأثير الدين فيهم قويّ يجعلهم أكثر استعداداً للطاعة وللتضحية في سبيل الأهداف العامة التي من أجلها قامت الدولة. لكن عندما يتغير هذا الطابع الديني فإن الدولة تبدأ في الضعف والهزال!
"وقد بيّن "
ابن خلدون " أن العرب حينما ينبذون الدين يصبحون ضعفاء في أمور السياسة، وأن الدين يعتبر عاملاً مشجعاً لاتحادهم وتفوقهم السياسي، والضعف الديني لا يقودهم فقط إلى انحطاط النفوذ السياسي، بل وأيضاً إلى الطغيان والظلم، إن ابن خلدون يعتبر الدين هو أساس العمران، وحجر الزاوية في بقاء الدولة.
وإذا كان هذا هو رأي "
ابن خلدون " فإن " الملك عبد العزيز " يشاطره الرأي، حيث يقول مخاطباً ابنه وولي عهد:
(برقيتك وصلت وقد أحطنا علما بما جاء فيها، وهذا أملنا فيك؛ نرجو أن يرزقنا الله وإياك الهدى والتوفيق.
وقد أحببت أن أكرر عليك نصائحي. والأمر الذي أكرره عليك وأوصيك به هو:
تقوى الله والمحافظة على ما يرضيه، وتفهم أن الحجة قائمة على البشر بعد ما أرسل الله أفضل رسله، وأنزل أفضل كتبه، فلا يوجد بعد كتاب الله وسنة رسوله صلوات الله عليه وسلامه حجة لأحد، لأنها المبينة المبشرة بالخير بحذافيره، والمحذرة والمنذرة عن الشر بحذافيره، فلا حجة ولا معذرة بعد ذلك.
ثم تفهم أننا نحن "
آل سعود " ما أخذنا هذا الأمر بحولنا ولا بقوتنا إنما منّ به الله علينا بسبب كلمة التوحيد.
وتفهم أن كلمة التوحيد معناها الإخلاص لله بالعبادة والانقياد له بالطاعة. أما الانقياد فهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه، والعمل بالجميع بإخلاص ونية ومتابعة، وأن يؤمر الناس جميعهم بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأن يعاملوا بالعدل، ولا شيء أعدل من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فبحول الله وقوته ما اعتصم أحد بالله وقام بسنة رسوله إلا وفق وهدي).
ثانياً:
الترف.
يبيّن "
ابن خلدون " أن الترف والبذخ عامل سيئ، وهو عامل يساهم في انحطاط الدول وفسادها أخلاقياً وسياسياً.
يقول "
ابن خلدون ": (فإذا تعيّن أولئك القائمون بالدولة انغمسوا في النعيم وغرقوا في بحر الترف والخصب، واستعبدوا إخوانهم من ذلك الجيل، وأنفقوا في وجوه الدولة ومذاهبها).
ثم يبيّن "
ابن خلدون " أن عامل الترف والبذخ ينتج جيلاً مترفاً يحتاج في أموره إلى الخدم والحشم، ويعجز عن معالجة كبار الأمور والمهام.
يقول: (إن أكثر المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته أو يكون عاجزاً عنها، لما ربي عليه من خُلق التنعم والترف).
ونجد أيضاً أن "
الملك عبد العزيز "
يشاطر مؤرخنا رأيه، حيث يقول:
¥