جرى ذلك في الوقت الذي عجز فيه (خيار المفاوضات) حتى عن عقد مؤتمره العام بسبب كثرة الانشقاقات والاختلافات التي كان حلها بفصل الكوادر المشاغبة كما قيل!!
الشعبُ الذي قيل إن (المقاومة) حشرته في (صندوق) ضيق، وتاجرت بدمه، وجعلته عرضةً للعذاب .. هذا الشعبُ هو الذي يخرج هاتفاً للمقاومة مؤيداً لبرنامجها، وهو الذي اختارها ابتداءً لتحكمه وقد كان على وعيٍ ببرنامجها ومعرفةٍ بمنطقها المقاوم ... وهو الذي نسمعُهُ – عبر الفضائيات والاتصالات الهاتفية الشعبية- في قلبِ الحربِ يشدُّ على يد المقاومين ويطلب منهم الانتقام من اليهود.
ثم نأتي نحن لنقول .. مسكين هذا الشعب!! قامر به أبطال حروب الحناجر!!
السؤال المعاكس ...
وهناك جانب يجب الالتفات إليه ..
دائماً ما يتحدث هؤلاء المتهمون للمقاومة بمنطق: انظروا ماذا سببت المقاومة من دمار باستفزازها لإسرائيل ..
ولكن أحداً منهم لم يطرح السؤال بشكل معاكس: ماذا كانت ستفعل إسرائيل لو لم تكن هناك مقاومة؟!!
ألم تكن إسرائيل إذْ قامت تتحدث عن دولة عظمى من البحر إلى النهر؟ ألم تكن تتحدثُ عن إبادة كاملةٍ للفلسطينيين؟ هل نسينا تصريحات ليفي أشكول وجولدا مائير وموشي دايان وإسحاق رابين؟!! ماالذي خفض سقف الطموحات الإسرائيلية؟ وقلل أحلامها؟
أليست المقاومة المستمرة هي التي أجبرت إسرائيل على بعض التنازلات؟ أليست (السلطة الوطنية) التي يدعو أربابها اليوم إلى ترك خيار القتال أليست هي وليدة المقاومة والقتال؟ أكان اليهود يسمحون بشيء كهذا على هزاله لولا ما وجدوه من مقاومة صلبةٍ؟
الصواريخ والنموذج الإدراكي ...
لنطرح المسألة من زاوية أخرى .. هي الزاوية الفكرية الاجتماعية:
يجب أن ندرك جيداً أنّ معظم المستوطنين الإسرائليين الحاليين هم مجرد مرتزقة، فأكثرهم لم يأتِ به إلى فلسطين إلا الرخاء المادي الذي وفرته له الحكومة، وإذا كانت الأجيال الأولى من المستوطنين ذات بعدٍ دينيٍّ عقديٍّ في قدومها إلى فلسطين فإن الأجيال الحالية – ومع تزايد معدل العلمنة – تبحث عن العيش الرخيِّ الهانئ! ويدلك على هذا أن الإعلان عن المستوطنات الإسرائيلية في الصحف الغربية لم يعد يتحدث بمنطق العودة إلى أرض الأجداد!! وإنما بات يتحدث عن مزايا المستوطنة مادياً فقط!!
إذنْ الخارطة الإدراكية للمستوطن اليهودي أنه سيأتي إلى أرض ينعم فيها بالرخاء المادي والنعيم والاستقرار .. إذا فهمنا ذلك جيداً أدركنا أنَّ (كل ما ينغص على المستوطنين حياتهم هو في النهاية إحباطٌ للمخطط الصهيوني)!
المسألة إذن ليست مسألة صواريخ لاتزيد على أن تثقب حفراً في شوارع إسرائيل.
المسألة أن هذه الصواريخ البسيطة تهز النموذج الإدراكي للمستوطنين من أساسه، وبالتالي تدفعهم للهرب، ومن ثم يفضي ذلك إلى زوال نموذج إسرائيل كدولة آمنة مستقرة. [انظر ما كتبه د. المسيري في تجربته الفكرية ص: 524 ـ 526].
هل فهمنا الآن قيمة الصواريخ؟ بل حتى قيمة الحجر الذي يلقيه الطفل الفلسطيني على اليهود؟
إنَّ تعطيل الدراسة في جنوب إسرائيل بسبب صواريخ المقاومة يعني شرخاً هائلاًُ في البنية الإدراكية التي صرفت إسرائيل مليارات الدولارات لتغرسها في نفوس مواطنيها.
إنّ صاروخ المقاومة لا يثقب حفرة في أرض إسرائيل فقط .. بل يثقب الكيان الإسرائيلي بأكمله.
الكيل بمكيالين ...
ومن عجيب هذه القضية أن كل دولةٍ عربيةٍ – ومعها مؤرخوها وكتابها - تصوِّر حروبها التأسيسية والتحررية على أنها حروب كرامةٍ ووطنية ثم تُصَوَّرُ حرب المقاومة في فلسطين على أنها حرب عبثية بصواريخ ورقية؟!!
في عام 1233هـ قرر عبد الله بن سعود آخر أمراء الدولة السعودية الأولى مواجهة إبراهيم باشا والي مصر، على الرغم من الفارق الكبير في العدة والعدد بين دولةٍ ناشئةٍ ودولةٍ راسخةٍ مدعومةٍ من قبل الخلافة العثمانية. انتهت المعركة باستسلام عبدالله بن سعود، وسقوط الدولة السعودية الأولى، ولم نسمع أحداً يصف تحركاتِهِ بالتهوّر والحماقة!
في عام 1319هـ سار الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله بأربعين رجلاً وثلاثين بندقية ومائتي ريال إلى الرياض لفتحها!! أربعون رجلاً فقط ببنادق قديمة يخوضون حرباً لفتحِ مدينةٍ واسترجاع مُلْك!!
¥