تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وتتبع المسلمون أماكن عبادة الأنبياء السابقين واحدًا واحدًا، ابتداء من إبراهيم إلى آخر من دفن منهم في فلسطين وبيت المقدس، فأقاموا فيها المساجد، وحافظوا على قداستها، وطهروها تطهيرًا. [1]

لقد أحل المسلمون هذه المدينة مكانًا فريدًا تميزت به عن كل المدن التي فتحوها، وذلك عندما لم يتسلمها القائد الفاتح وهو "أمين الأمة" أبو عبيدة بن الجراح (40ق. هـ – 18 هـ/ 584م – 639م) وكان تسليمها للخليفة عمر بن الخطاب، الذي ركب من "المدينة المنورة" إليها، ليتسلم أمانتها، وليعقد بنفسه "العهد العمري، مع بطريركها صفرونيوس (17هـ - 638م)، ولتكون لها بهذه الخصوصية مكانة "أمانة الفاروق عمر" لدى أمة الإسلام.

وهو شرف لم تحظ به مدينة من المدن التي فتحها المسلمون عبر تاريخ الفتوحات.

وبتغير اسم هذه المدينة إلى "القدس" و"بيت المقدس" رفع المسلمون عليها رايات القدسية والتقديس، وبتحرج عمر ابن الخطاب – عندما كان يجلس "صفرونيوس" في كنيسة القيامة – من أن يصلي في الكنيسة، رغم دعوة البطريرك، كي لا تكون لمسلم شبهة حق في أرض الكنيسة يقيم فيها مسجدًا.

ولم يكن عمر في ذلك "مبتدعًا" بل ولا حتى "مجتهدًا" لأنه هو المؤمن بالعقيدة الإسلامية التي لا تكتمل أركانها إلا بالإيمان بسائر الرسل وجميع الرسالات، وكل الكتب التي سبقت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كما يقول القرآن الكريم.

(ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) (البقرة: 2 - 5).

(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكتة وكتبه ورسله) (البقرة: 285).

وهو عمر الذي يتعبد بالقرآن الكريم الذي عرض لمقدسات أمم الرسالات السماوية جميعًا، فبدأ بالصوامع وانتهى بالمساجد (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) (الحج: 40).

بهذا الموقف العمري بدأت الحقبة الإسلامية في تاريخ المدينة، فغدت قداستها عامة لعامة أبناء رسالات السماء.

فكنيسة القيامة قدس خاص بالنصارى، ومواطن المقدسات اليهودية، أعاد إليها عمر والمسلمون الطهارة عندما رفعوا عنها القمامة والقاذورات، وارتفعت في المدينة عمائر المساجد الإسلامية.

والمسلمون صنعوا ذلك مع "القدس" تحديدًا: لأن قرآنهم الكريم قد جعل الرباط بين "القدس" وبين "الحرم المكي" – الذي هو قبلة الأمة الخاتمة – آية من آيات الله. وليس مجرد رباط سياسي أو إداري، يقيمه فاتحون وينقضه غزاة (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) (الإسراء:1).

فكان الإسراء إسراء الله بعبده ورسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعروجه من الصخرة إلى سدرة المنتهى، الإعلان الإلهي عن ختم هذه الرحلة القدسية لخطوات الأنبياء والرسل على طريق الله، وعن حمل أمة الرسالة الخاتمة أمانة الجهاد في سبيل الحفاظ على المقدسات، تلك التي تجسدها مدينة القدس قبل غيرها، وأكثر من غيرها من المدن والبقاع.

ولقد شهد التاريخ الإسلامي للقدس بأحرف من نور على وفاء الأمة الإسلامية بهذه الأمانة التي أرادها الله، والتي رمزت إليها رحلة الإسراء، والتي سلمها إياها عمر بن الخطاب، فغدت القدس منذ ذلك التاريخ مشاعة القداسة، مفتوحة الأبواب لكل أبناء رسالات السماء. ازدهرت فيها إلى جانب المساجد الإسلامية كنائس النصارى، وأخذ اليهود يعودون إلى سكناها، بعد أن حرموا من ذلك في العهد الروماني الوثني والنصراني على حد سواء.

بل لقد تولت الأسر المسلمة المقدسية "نظارة الأوقاف" التي أوقفها النصارى على كنائسهم، بعد أن اختارهم النصارى لذلك، فرعوا المقدسات النصرانية على امتداد التاريخ الإسلامي.

وشاء الله أن تظل هذه الأمانة من خصائص الأمة الإسلامية، والدول الإسلامية دائمًا وأبدًا، فطالما كانت السيادة على القدس لأمة الرسالة التي لا تحتكر النبوات والرسالات، ولا تدفعها العنصرية إلى احتكار القدسية لأماكن عباداتها، طالما ساء هذا الحال، كانت الأبواب مفتوحة في القدس لكل أمم الرسالات.

أما في فترات تراجع التوجه، وهزيمة الدولة الإسلامية، وانحسار سيادة المسلمين عن القدس في الحقبة الصليبية القديمة، والحقبة اليهودية المعاصرة، فإن الاحتكار لقداسة القدس يعود ليطل بوجهه الكئيب.

حدث ذلك في تاريخ القدس، حتى لكأنه القانون الذي لا تبديل له، ولا تحويل.


[1] (د. إسحاق موسى الحسيني "مكانة بيت المقدس في الإسلام" كتاب المؤتمر الرابع لمجمع البحوث الإسلامية ص 57، 58 سنة 1968م).
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير