وفي هذا العصر، اتسع نطاق الرواية، نظرا لازدياد أعداد الداخلين في الإسلام من أبناء البلاد المفتوحة، وإقبال كثير منهم على طلب العلم، حتى تفوقوا على أبناء العرب في هذا المضمار، وكونوا طبقة من العلماء أطلق عليها "طبقة الموالي"، من أبرزهم نافع مولى ابن عمر، وعكرمة مولى ابن عباس.
وأمر آخر في غاية الأهمية، كان له دور كبير في زيادة تحري الصحابة، رضوان الله عليهم، في قبول الأخبار، ألا وهو وقوع الفتنة التي أذكى نارها، عبد الله بن سبأ، لعنه الله، وما واكب ذلك من ظهور الفرق المنحرفة، كالخوارج والشيعة، وتلاهم المرجئة، وكثير منهم كان يستحل الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنصرة مذهبه، وخاصة الشيعة، فهم أكذب الناس، حتى صار الكذب عندهم عبادة، كما تقدم، وهذا ما استلزم الكلام في الرواة جرحا وتعديلا، فظهرت مبادئ هذا العلم، في هذه المرحلة.
واختلف الوضع بالنسبة للمرسل، فلم يعد يقبل مطلقا، كما كان في العهد النبوي، لظهور طبقة جديدة من الرواة تفتقر إلى التعديل، فلا تقبل روايتهم إلا بعد ثبوت عدالتهم، ولا يقبل إرسالهم إلا بعد معرفة عين الساقط من السند، والبحث في حاله، إن لم يكن صحابيا، ولعل قصة إعراض ابن عباس، رضي الله عنهما، عن سماع حديث بشير العدوي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أبرز دليل على توقف الصحابة في قبول مرسل من عدا الصحابة.
وإن كان الناظر، يسلم بما سبق، إلا أنه لابد من التأكيد على أن العدالة كانت هي السمة الغالبة على هذا الجيل، وإن ظهر فيه من قدح في عدالته أو حفظه، ولذا فإن مرسلهم، وخاصة، مرسل كبارهم، كسعيد بن المسيب، أو مرسل من عرف منهم بشدة التحري، وإن كان من صغارهم، كإبراهيم النخعي، يعامل معاملة خاصة، ترجح جانب قبوله إذا اعتضد بما يقويه، كما قرر ذلك الشافعي رحمه الله.
والمبهم الذي لم يسم في هذه الطبقة، روايته تعامل أيضا معاملة خاصة تختلف عن رواية المبهم من الطبقات التالية، فيستأنس بها ويستضاء بها في مواطن، وقد وقع في مسند أحمد وغيره من هذا القبيل كثير، كما قرر ذلك الحافظ ابن كثير، رحمه الله، في اختصار علوم الحديث.
كما أن الغالب على رواة هذه المرحلة من التابعين، الحفظ، لأن الأسانيد لم تتشعب بعد، ومن جرح منهم فجرحه غالبا يكون بسبب البدعة، كما قرر ذلك الذهبي رحمه الله.
وأما الكتابة في هذا العصر، فقد كانت موجودة، ولكنها لم تكن كتابة رسمية بأمر الخلافة، وإنما كانت جهودا فردية، فهي كتابة للحفظ، خشية نسيان المكتوب، لا للجمع والتدوين، فما زال الحفظ هو المقدم في حفظ السنن، وأما الكتابة فكان دورها تكميليا، فيما يخشى نسيانه، وبمرور الزمن، سيتراجع الحفظ، وتزيد الكتابة، كما سيأتي إن شاء الله، فالتناسب بينهما عكسي، وإن كان كلاهما يخدم قضية حفظ السنة.
وقد ذكر الدكتور الحسين شواط، في كتابه "حجية السنة" ص153 _ 156، عشرين نموذجا لكتابات الصحابة، كأبي بكر وعمر والبراء بن عازب وأنس بن مالك وعبد الله ابن مسعود والمغيرة بن شعبة والحسن بن علي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وسمرة بن جندب وسعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي رافع وكعب بن عمرو وأبي هريرة وجابر بن عبد الله ورافع بن خديج.
وكذا الحال بالنسبة لرحلات الصحابة، رضوان الله عليهم، كرحلة جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس مسيرة شهر في حديث واحد، ورحلة أبي أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر في مصر من أجل حديث واحد، فقد كانت رحلات للحفظ، لا للتلقي والتدوين، ولهذا فإنها لم تكن على نفس درجة رحلات من جاء بعدهم، ممن عني بتدوين السنة وجمعها، كما سيأتي إن شاء الله.
¥