تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي هذه النماذج، رد دامغ على من روج لشبهة تأخر الكتابة، مما يخشى معه من ضياع السنة والدس فيها، فلا بد من التمييز بين مصطلحي "الكتابة" و "التدوين"، فالأول وقع يقينا في هذه المرحلة المبكرة، وأما الثاني فلم يقع، وإن كانت فكرة تدوين الدولة للسنة قد طرحت في عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وربما كان ذلك بإشارة من بعض الصحابة، لكن عمر تخلى عن الفكرة بعد استخارة دامت شهرا، وأما ما يتعلق بأحوال النقلة، فإن الأمر اختلف تماما، بعد الفتنة، ولعل قول محمد بن سيرين رحمه الله: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم. فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم)، خير شاهد على ذلك، فظهر بهذا: أن السنة كانت محفوظة تمام الحفظ منذ هذا العصر المبكر. فالله الحمد على هذه النعمة.

وبقيت شبه أثارها بعض المغرضين للتشكيك في منهج الصحابة في التعامل مع السنة، من أبرزها:

شبهة منع عمر بن الخطاب للصحابة من الإكثار من الرواية، وفي هذا يقول الحافظ ابن عبد البر: "احتج بعض من لا علم له ولا معرفة من أهل البدع وغيرهم من الطاعنين في السنن بحديث عمر هذا قوله: "أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلوا ذلك ذريعة إلى الزهد في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا يوصل إلى مراد كتاب الله إلا بها، والطعن على أهلها ولا حجة في هذا الحديث، ولا دليل على شيء مما ذهبوا إليه من وجوه قد ذكرها أهل العلم". وبعد إيراد بعض الوجوه أورد حديثا لعمر رضي الله عنه يقول فيه: "إني أريد أن أقول مقالة قد قدر لي أن أقولها. من وعاها وعقلها وحفظها فليحدث بها حيث تنتهي راحلته، ومن خشي أن لا يعيها فإني لا أحل له أن يكذب علي".

قال ابن عبد البر: "وهذا يدل على أن نهيه عن الإكثار وأمره بالإقلال من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان خوف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم".

فعمر، رضي الله عنه، في تشديده على الصحابة، رضوان الله عليهم، في هذه المسألة، كان ينظر إلى من تلاهم، فإنهم إذا رأوا الصحابة، وهم من هم، في العدالة والضبط، قد شدد عليهم في الرواية، فإن هذا يكون زاجرا لهم عن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رواية ما لم يتقنوه، كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي رحمه الله.

وكان يهدف أيضا إلى سن منهج قويم، في مسألة تلقي علوم السنة، فالإقلال مع الإتقان خير من الاستكثار مع عدم الإتقان، بل إن الواقع يشهد أن من استكثر من العلوم، يكاد يكون غير ضابط لها، فما أتى جملة واحدة يذهب جملة واحدة، ولعل تاريخ علماء الإسلام، يشهد لهذا، فالعالم الذي يتخصص في فن واحد من فنون العلم، يكون أكثر إتقانا له من العالم الذي ينظر في فنون متعددة، فالحافظ المجدد ابن عبد البر، حافظ المغرب رحمه الله، على سبيل المثال، أكثر إتقانا لعلوم السنة من قرينه الإمام الحجة، سلطان الأندلس ابن حزم، رحمه الله، لأن الأول كان معنيا بعلوم السنة، خلاف الثاني الذي خاض في فنون كثيرة، فقل ضبطه لعلوم السنة، ويظهر جليا في منهجه في تعليل الأخبار وتعديل الرواة، فقد خالف ما عليه أئمة هذا الفن، وكذا الحافظ السخاوي، رحمه الله، أشد إتقانا لهذا الفن، من قرينه الحافظ السيوطي، رحمه الله، لأن الأول كان كلفا بعلوم السنة، وما يخدمها، كعلم التاريخ، خلاف الثاني الذي تنوعت معارفه، فقل إتقانه.

ولعل أقوال عمر، رضي الله عنه، الأخرى في هذه المسألة تنفي هذه الشبهة، ومنها قوله: (تعلموا السنة والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن)، واللحن: هو علم العربية فقد كان عمر رضي الله عنه من أشد الناس اهتماما بهذا الأمر الجليل، وقوله: (إياكم والرأي، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها)، وقوله: (سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله).

فهذه الأقوال لا يمكن أن تصدر من رجل يريد منع الناس من رواية السنة، وإنما مراده تقنين هذه الرواية، بما يحفظ هذه الثروة ويمنع الدس فيها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير