بل إن من ورد عنهم طلب الشاهد، لم يكن هذا منهجا دائما لهم، وإنما كانوا يعمدون إلى ذلك في حالات الشك فقط، ولذا قبلوا كثيرا من الأخبار، التي رواها راو واحد فقط، ومن ذلك:
· أن عمر رضي الله عنه كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا، حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته فرجع إليه عمر.
· وأخذ عمر بخبر سعد بن أبي وقاص في المسح على الخفين.
· وأمر عمر برجم مولاة حاطب فذكره عثمان بأن الجاهل لا حد عليه فأمسك عن رجمها.
· وقبل أبو بكر خبر عائشة رضي الله عنهما وحدها في صفة كفن النبي صلى الله عليه وسلم.
· وقبل عثمان رضي الله عنه حديث الفريعة بنت مالك حول عدتها لوفاة زوجها، وقضى بخبرها.
· وأخذ علي بخبر المقداد بن الأسود رضي الله عنهما في حكم المذي، دون أن يحلفه، بتصرف من حجية السنة ص 94 _ 95.
وثمة شبهة أخيرة وهي:
استدلال البعض بإحراق بعض الصحابة والتابعين لكتبهم، على أن النهي عن كتابة السنة غير منسوخ، وأن هذه الكتب لا بد أن تحتوي على روايات لم تصل لنا، وبالتالي تكون دعوى حفظ السنة غير مسلم بها، والرد على هذه الشبهة:
أن هذا التصرف، كان تصرفا فرديا من آحاد الصحابة والتابعين، فلم يلزم أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، على سبيل المثال، وهو ممن حرق كتبه، أحدا بهذا، رغم أنه كان الخليفة المطاع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصلنا إنكاره على أحد من الصحابة كتابته، وهذا يؤكد أن الكتابات في هذه الفترة كانت، كما تقدم، للحفظ فقط، فبمجرد إتقان ما فيها من أحاديث تزول الحاجة إليها، وبالتالي يصبح إحراقها أمرا سائغا، وهذا يعني أن ما فيها لم يفقد كما يدعي البعض، وإنما انتقل من حفظ السطور إلى حفظ الصدور، وهو أقوى، كما قرر ذلك علماء الحديث والأصول، كما تقدم، فقد أجمع المحدثون على أن الرواية المأخوذة عن حفظ (مع عدالة الناقل طبعا) أقوى درجة من الرواية بالمكاتبة.
كما اتفق الأصوليون عند الكلام على طرق ترجيح الأخبار أنه إذا تعارض خبران وكان أحدهما مرويا بالسماع والآخر مرويا بالكتابة أنه يقع ترجيح الخبر المروي سماعا.
وهذه الروايات المحترقة، هل يعقل أنها كانت مع هذا الصحابي أو هذا التابعي بعينه، مع انتشار الرواية؟!!!!، الجواب بلا شك: لا، فلا بد أنها كانت موجودة عند غيره، فلو سلمنا جدلا أنه حرقها قبل أن يحفظها، فلا يمنع هذا من وجودها محفوظة متقنة عند غيره، وعدم ضياع السنة لا يعني حفظ كل حروفها، وإنما يعني أنه لم يفقد منها من الناحية العملية لا الفعلية شيء، فلو فرضنا أن حرفا من حروف السنة لم يصل لنا بعينه، فإن هذا لا يعني عدم وصول حرف آخر يؤدي نفس معنى الحرف الأول، وإن لم يطابقه في اللفظ، وبهذا رد الشيخ أحمد شاكر، رحمه الله، على من قال: (إنه لم يقع لأحمد في المسند جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين قريبا من مائتين)، حيث قال: (في هذا غلو شديد، بل نرى أن الذي فات المسند من الأحاديث شيء قليل. وأكثر ما يفوته من حديث صحابي معين يكون مرويا عنده معناه من حديث صحابي آخر)، ومحل الشاهد هو الجملة الأخيرة. فقد استغنى بأحاديث عن أحاديث أخرى تؤدي نفس المعنى.
وقد حدد الصديق، رضي الله عنه، سبب فعله هذا فقال بأنه خشي أن يقول الناس إذا ما وجدوا كتبه محفوظة، ووقفوا على حديث ليس فيها: لو كان قاله صلى الله عليه وسلم لما خفي على أبي بكر، فيكون هذا مسوغا لهم لترك أحاديث صحيحة بحجة أنها غير موجودة في كتاب أبي بكر، ولا شك أن كتاب أبي بكر لم يستوعب السنة بأكملها، فلم يحط علما بالسنة أكملها، مهما بلغت درجته، أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كما قرر ذلك شيخ الإسلام، رحمه الله.
¥