ولا شك أن تعدد طرق الحديث، قد شجع كثيرا من التابعين على تتبعها وجمعها، وقد كان هذا نواة علم علل الأحاديث، وهو من أعمق علوم السنة، ولا يكاد يتقنه إلا أفراد معددون في كل عصر، لأنه يتطلب حافظة قوية لجمع طرق الأحاديث وبصيرة نافذة لدراسة هذه الطرق، ومعرفة الخطأ من الصواب، فالباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه، كما ذكر ذلك إمام العلل علي بن المديني رحمه الله، فلو جاءنا حديث عن راو معين، وليكن حماد بن سلمة، رحمه الله، على سبيل المثال، وكان خطأ فإننا يجب أن نجمع طرق الحديث عن شيخ حماد، وطرق الحديث عنه، فإن اتفق الرواة عنه على لفظ واحد، وانفرد هو بهذا اللفظ عن شيخه دون باقي الرواة، فإن عهدة الخطأ تكون عليه بلا شك، خلاف ما لو اختلف الرواة عنه، فإن عهدة الخطأ تكون على أحدهم، وهذا لا يتضح إلا بجمع طرق الحديث عن الراوي وعن شيخه.
والناظر في حال الرواية في هذا العصر، يلمح اهتمام الرواة بالأحاديث المشاهير، واجتنابهم الغرائب، لأنها مظنة الخطأ، ناهيك أن مرحلة النظر في الغرائب لا تكون إلا بعد تحصيل الأحاديث الصحيحة، فلا يعقل أن يتجه طالب أي علم لتحصيل دقائقه، ولما يحصل أصوله بعد، وهذا دليل آخر يؤكد حرص هذا الجيل على حفظ السنة المشهورة التي عليها مدار الدين.
ونلاحظ في هذا الجيل، قوة الحافظة، كما في الجيل السابق، وإن كان الأمر قد بدأ في التناقص، ولذا فإن الهدف الأساسي من الكتابة في هذا العصر كان، أيضا، إتقان الحفظ، لا التدوين والجمع، وعليه يمكن تخريج فعل بعض التابعين الذين حرقوا كتبهم، كعبيدة السلماني، رحمه الله، فلا حاجة لها بعد إتقان حفظها، ناهيك أنها قد تؤول إلى غير أهلها ممن لا يستحق حمل هذا العلم الشريف.
وقد ساق الدكتور الحسين شواط في كتابه "حجية السنة" ص157 _ 160، عشرين نموذجا من نماذج كتابات التابعين، وزاد عليه الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، فذكر 150 نموذجا، وهذا بلا شك حاصل استقراء جيد لكتب الحديث وتراجم الرواة، ولا زال الباب مفتوحا لزيادة هذه الأمثلة، لأن هذا الاستقراء مهما بلغت سعته، لا بد أنه قد فاته بعض الكتب التي يمكن العثور فيها على أمثلة إضافية، وهذا بلا شك من الردود القوية على شبهة تأخر كتابة السنة لأوائل القرن الثاني، فها نحن قبل التدوين الرسمي للسنة، أمام هذا الكم الكبير من الكتابات الموثقة.
بتصرف من محاضرات "تاريخ نشوء مصنفات السنة"، للشيخ الدكتور حاتم الشريف حفظه لله.
والناظر في صحفهم المكتوبة، يجد أنها لم تكن مرتبة وفق منهج معين، فلم تظهر حتى الآن طرق التصنيف التي انتهجها علماء القرن الثالث الهجري، العصر الذهبي للسنة، فلا ترتيب وفق الأبواب أو المسانيد أو أسماء الشيوخ .... الخ.
ومن أبرز الصحف الحديثية التي وصلت لنا من هذا العصر:
· صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة، وهي المعروفة بالصحيفة الصحيحة، وفيها ما يزيد على 130 حديثا، غير مرتبة، وقد رواها عبد الرزاق عن معمر عن أبي هريرة، واتفق الشيخان على كثير من أحاديثها، وانفرد كل واحد منهما ببعض ما فيها، وهذا من أبرز الأدلة على أن الشيخين لم يقصدا استيعاب الصحيح، كما أشار إلى ذلك الشيخ العلامة السيد أحمد شاكر، رحمه الله، وقد يرد على هذا القول أن الشيخين، رحمهما الله، انتقيا منها ما هو صحيح في نفس الأمر، أو صحيح على شرطهما، وأعرضا عن الباقي فلا يلزم من اتحاد السند، أن المتون على نفس الدرجة من الصحة، وقد روى أحمد هذه الصحيفة في مسنده عن عبد الرزاق، رحمه الله، والله أعلم.
· ووصلتنا أيضا صحيفة أبي صالح عن أبي هريرة، وهي الصحيفة التي رواها عنه ابنه سهيل.
ورغم ذلك فقد ظهرت باكورة التصنيف على الأبواب، أو في مواضيع بعينها في نهاية هذا العصر، ومن أبرز الأدلة على ذلك:
· قول عاصم الأحول: عرضت على الشعبي أحاديث الفقه فأجازها، فقوله "أحاديث الفقه"، يدل على نوع تخصص في الرواية، فهي مرويات خاصة بالأحكام الفقهية فقط دون الأحكام العقدية أو الأخلاقية أو مرويات الرقاق والمواعظ.
¥