وأما علم الجرح والتعديل، فقد بدأ ينشط منذ وقوع الفتنة، وما صاحب ذلك من ظهور البدع وانتشارها كبدع الخروج والتشيع والإرجاء والقدر والجبر والاعتزال والتجهم، وهي بدع ظهرت على استحياء منذ أواخر عصر الصحابة، ورغم ذلك فقد كان أصحابها، كما ذكر عثمان بن سعيد الدارمي، رحمه الله، مقموعين، لأن السنة كانت ظاهرة، ناهيك أنهم لم يظهروا بدعهم المغلظة في أسماء الله وصفاته، وإنما اقتصروا على بدع الخروج والتشيع والإرجاء والقدر .... الخ. وبطبيعة الحال واكب هذه البدع اختلاق أحاديث تؤيد هذه البدع، وخاصة بدعة التشيع التي تفنن أصحابها في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لترويج بدعهم، بالإضافة إلى من تظاهروا بالإسلام من أبناء الأمم المغلوبة، وحاولوا الدس في السنة، فنقلوا ساحة المعركة من ميدان الحرب إلى ميدان الفكر، كما قرر ذلك ابن خلدون رحمه الله.
وكان لا بد للأئمة من التحري والتفتيش في أحوال الرواة، فظهرت باكورة علم الجرح والتعديل، وكانت بداية ظهوره في العراق لسببين رئيسيين:
· أولا: كثرة العلماء بها، فقد كانت الكوفة والبصرة مركزين رئيسيين لكافة العلوم الإسلامية، وكان التنافس بينهما على أشده، فعلى سبيل المثال: نجد في علم النحو منافسة قوية بين مدرسة الكوفيين ومدرسة البصريين.
· ثانيا: كثرة الآراء والنحل في العراق، فقد كان العراق منذ عهد الفتح الإسلامي يعج بمختلف المذاهب الفكرية، التي ورثها من حضارة فارس، وهي حضارة ذات ميراث ثقافي وعقدي كبير، يخالف الإسلام في كثير من عقائده وآدابه، وفي العراق أطلت البدع برأسها، فظهر الخوارج والشيعة في الكوفة، وكانت الكوفة مركزا للشيعة الغلاة وشيعة أهل السنة الذين يقدمون عليا على عثمان رضي الله عنهما، وأما البصرة فقد كانت على العكس، فوصفت بأنها "عثمانية" لانحرافها عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وميلها لأمير المؤمنين عثمان، رضي الله عنه، وظهر الاعتزال والقول بالقدر في البصرة بعد ذلك.
وسبق الكلام على تاريخ علم الجرح والتعديل في مشاركة مستقلة.
وأخيرا لابد من ذكر المأثرة العظمى لهذه المرحلة، وهي أمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، بالتدوين الرسمي الأول للسنة، وقد سبق بمحاولتين لم تتما أحدهما على يد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، والأخرى على يد أبيه عبد العزيز بن مروان، رحمه الله، المتوفى سنة 85 هـ، وقد مر هذا التدوين بـ 3 مراحل:
أولا: استنفار علماء الأمة في الآفاق لنشر السنة وتدوينها:
حيث أرسل إلى جميع ولاته على الأمصار: (انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه).
وكتب إلى أهل المدينة: (انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله).
وكتب إلى عامله أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، رحمه الله، ليكتب له بما ثبت عنده من الأحاديث الصحيحة، وبحديث خالته عمرة بنت عبد الرحمن حافظة حديث عائشة رضي الله عنها، وراويتها.
ولم يكن استنفاره للجمع فقط، بل للتحديث وإحياء السنن، فكتب إلى الآفاق: (أما بعد، فأمروا أهل العلم أن ينتشروا في مساجدهم فإن السنة كانت قد أميتت).
ثانيا: فحص المادة المدونة:
فقد كان العمل جمعا ونقدا، حيث أن عمر، رحمه الله، كلف بهذه المهمة كبار حفاظ التابعين، ومع ذلك فإنه كان يجتمع بهم ويراجع معهم المادة المدونة ويناقشهم فيها للتأكد من سلامتها، فعن عبد الله بن ذكوان قال: (رأيت عمر بن عبد العزيز جمع الفقهاء، فجمعوا له أشياء من السنن، فإذا جاء الشيء الذي ليس عليه العمل، قال: هذه زيادة ليس العمل عليها).
ثالثا: نشر المادة المدونة في آفاق بلاد الإسلام:
وفي هذا يقول الزهري: (أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفترا دفترا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترا). بتصرف من حجية السنة ص 163 _ 164.
¥