وقد نقل الذهبي، رحمه الله، في موضع آخر من ترجمة الزهري عن زيد بن يحيى الدمشقي: حدثنا علي بن حوشب، عن مكحول، وذكر الزهري، فقال: أي رجل هو لولا أنه أفسد نفسه بصحبة الملوك.
ويعلق الذهبي بقوله:
قلت: بعض من لا يعتد به لم يأخذ عن الزهري لكونه كان مداخلا للخلفاء، ولئن فعل ذلك فهو الثبت الحجة.
وأين مثل الزهري رحمه الله. اهـ
فلم يكن الزهري، رحمه الله، كما تقدم، ممن يدخل على الخلفاء مداهنا أو متملقا، وإنما كان عالما جليلا وحافظا شريفا يهابه الخلفاء والملوك، فعلى سبيل المثال، لم يمنعه دخوله على هشام، من المجاهرة بالقدح في الوليد بن يزيد، ولي عهد هشام، لما عرف عنه من أمور عظيمة، وكان يقول لهشام: ما يحل لك إلا خلعه، فكان هشام لا يستطيع ذلك للعقد الذي عقد له، كما روى ذلك أبو الزناد عند الذهبي في السير.
ومن أشهر ما دسه المستشرقون، على إمامنا، اقتطاع أحد المستشرقين، لجملة من كلام الزهري قال فيها: "وإن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة أحاديث"، وهي كلمة مبتورة من سياق قصة طويلة، بترها ذلك الخبيث، ليشنع على إمامنا، ناهيك عن تحريفه لكلام الزهري، حيث حذف "أل" في كلمة "الأحاديث"، فأصل الكلام: " وإن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة الأحاديث"، وليس "أحاديث".
وأصل القصة أن هشام بن عبد الملك، أصر أن يملي الزهري على ابنه أحاديث ليحفظها، فأملى له الزهري بعض أحاديثه بسندها ثم خرج من عند هشام ونادى في الناس بأعلى صوته، "وتنبه لكلام الزهري بأكمله دون بتر": أيها الناس إنا كنا منعناكم أمرا قد بذلناه الآن لهؤلاء، " وإن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة الأحاديث فتعالوا أحدثكم بها"، أي لتكتبوها. اهـ، بتصرف من حجية السنة ص315.
فأل هنا "للعهد"، بمعنى الأحاديث التي منعتكم من كتابتها من قبل، فهي أحاديث معروفة لديهم، ولكنه كان يمنعهم من كتابتها لئلا يضعف حفظهم، فلما أجبر على إملائها، رأى، من الأمانة العلمية، أن يمليها على عموم الطلبة، لئلا يتميز أبناء الأمراء على غيرهم.
وأما سياق ذلك المستشرق، فهو يوحي "وخاصة مع تنكير كلمة الأحاديث"، بأنه أجبر، تحت التهديد، على تقول أحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يقلها.
وقد نقل الذهبي، رحمه الله، حكاية مشابهة، عن إبراهيم بن سعد، رحمه الله، قال: سمعت ابن شهاب، يقول: أرسل إلي هشام أن اكتب لبني بعض أحاديثك، فقلت: لو سألتني عن حديثين ما تابعت بينهما، ولكن إن كنت تريد، فادع كاتبا، فإذا اجتمع إلي الناس فسألوني كتبت لهم.
فلا محاباة عند الزهري، رحمه الله، فإن أراد هشام أن يكتب الزهري لأولاده فليكن المجلس عاما، يكتب فيه لكل الناس، لا لأبناء هشام خاصة، وفي قول هشام: "اكتب لبني بعض أحاديثك"، ما يفند الشبهة السابقة، فلم يقل: اكتب لي بعض الأحاديث، أو: اكتب لي بعض أحاديث، وإنما طلب منه أن يكتب لأولاده بعض أحاديثه التي يحفظها ويحدث بها.
وكذا روى الذهبي، رحمه الله، في "السير":
عن أحمد بن أبي الحواري: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: خرج الزهري من الخضراء من عند عبد الملك، فجلس عند ذلك العمود، فقال: يا أيها الناس، إنا كنا قد منعناكم شيئا قد بذلناه لهؤلاء، فتعالوا حتى أحدثكم، قال: فسمعهم يقولون: قال رسول الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أهل الشام: مالي أرى أحاديثكم ليست لها أزمة ولا خطم؟! قال الوليد: فتمسك أصحابنا بالأسانيد من يومئذ. اهـ
أي أهل الشام، لا بقية الأمصار، لأنهم لم يكونوا متمكنين من علوم الإسناد، كالحجازيين، حتى وفد عليهم الزهري فأخذوا عنه علوم الإسناد.
وروى نحوها من وجه آخر: أنه كان يمنعهم أن يكتبوا عنه، فلما ألزمه هشام بن عبد الملك أن يملي على بنيه، أذن للناس أن يكتبوا. اهـ
فللقصة سياقان: سياق مع عبد الملك، وسياق آخر مع ابنه هشام، وأيا كان، فالقصة ثابتة سواء، وقعت مع هذا أو ذاك، والله أعلم.
وعن معمر، عن الزهري، قال: كنا نكره الكتاب، حتى أكرهنا عليه الأمراء، فرأيت أن لا أمنعه مسلما.
¥