فلقد ظهرت في هذه المرحلة، وللمرة الأولى، مجالس الإملاء، حيث كثر عدد طلاب الحديث حتى لم تعد حلقات المساجد كافية لإسماعهم، فكان الشيخ يملي الحديث، و"المستملي" يعيد رواية الحديث بصوت عال حتى يسمعه الطلبة، وقد أفرد بعض العلماء كأبي المظفر السمعاني، رحمه الله، هذه المسألة بالتصنيف، فألف "أدب الإملاء والاستملاء"، وتكلم الخطيب، رحمه الله، عن هذه المسألة بالتفصيل في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع".
وأما المرحلة المتأخرة، فهي تعتبر بداية للعصر الذهبي، للسنة النبوية، الذي سيأتي بعد هذه المرحلة، وتمثلها طبقة أحمد وابن معين وابن المديني وابن أبي شيبة وابن راهويه والطيالسي، رحمهم الله، وغيرهم.
وفي هذه المرحلة، عمد هؤلاء الأئمة إلى جمع الروايات الشفوية المتداولة في مصنفات جامعة، لأن الروايات كثرت، ومخارج الأحاديث قد تعددت، فلزم جمعها، وابتكروا طريقة "المسانيد"، وهي تعنى بجمع أحاديث كل صحابي على حدة، دون التزام ترتيب الأبواب، الذي عرف فيما بعد، في الجوامع وكتب السنن.
وكان عمل الأئمة في هذه الفترة، هو الجمع بالدرجة الأولى، دون إفراد الصحيح بالتصنيف، فإلى الآن لم تظهر مصنفات اشترط مصنفوها الصحة، وقد ركز علماء هذه المرحلة على جمع الأحاديث المشهورة، مع الابتعاد عن الغرائب لأنها مظنة الخطأ والكذب، ويظهر هذا جليا في مصنف كـ "مسند أحمد"، حيث يعتبر مصنفا جامعا لأصول السنة وإن لم يستوعبها بالكامل، ولا شك أن هذا أمر منطقي، فإن الجامع أول ما يجمع فإنه يجمع المشاهير، ولا يعقل أن يبدأ بجمع الغرائب، وإنما تأتي مرحلة جمع الغرائب بعد استكمال جمع الأحاديث المشهورة.
والمسانيد، لاشك أنها أقل درجة من الصحاح والسنن، لأن مصنفيها لم يشترطوا الصحة، ولأنهم لم يصنفوا على الأبواب، فمن يصنف على الأبواب لا شك أنه سيتحرى أكثر، لأنه يسوق أحاديث دالة على الأحكام، خلاف من همه الجمع المطلق. ولذا فإن جمعا من النقاد، كعبد الرحمن بن مهدي، رحمه الله، خشي أن يحمل الاستكثار المحدثين على الكتابة عن غير الثقات.
وإلى هذا أشار العراقي في الألفية بقوله:
ودونها في رتبة ما جعلا ******* على المسانيد فيدعى الجفلا
كمسند الطيالسي وأحمدا ******* وعده للدارمي انتقدا.
ورغم ذلك فإن هذه القاعدة غير مطردة، لأن بعض المسانيد أعلى درجة من بعض كتب السنن، فعلى سبيل المثال: قرر شيخ الإسلام، رحمه الله، أن شرط أحمد في مسنده أعلى من شرط أبي داود في سننه، ومن شرط ابن ماجه، من باب أولى، لأن سنن ابن ماجه هي أدنى كتب السنن مرتبة، كما هو معلوم، حتى أخرجها بعض العلماء من الكتب الستة وأدخلوا مكانها موطأ مالك، كما فعل ابن الأثير، رحمه الله، في "جامع الأصول"، أو "سنن الدارمي"، على قول من يقول بأنها مرتبة على الأبواب لا المسانيد، كما فعل ابن حجر رحمه الله.
ولعل أشهر هذه المسانيد: مسند الإمام أحمد، رحمه الله، وهو أجل مسانيد السنة، وقد شهد له المحدثون قديما وحديثا بأنه أجمع كتب السنة للحديث، حيث اشتمل على أربعين ألف حديث بالمكرر وبغير المكرر على ثلاثين ألفا، ومع ذلك فلم يستوعب السنة بأكملها ومن زعم ذلك فقد أخطأ.
قال الحافظ ابن كثير: (لا يوازي مسند أحمد كتاب مسند في كثرته وحسن سياقاته وقد فاته أحاديث كثيرة جدا بل قيل أنه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في الصحيحين قريبا من مائتين). وقد انتقد الشيخ أحمد شاكر، رحمه الله، هذا القول، وقال بأن عامة ما تركه أحمد من أحاديث إنما هو لوجود أحاديث أخرى لها نفس المعنى، فاستغنى بالثاني عن الأول.
وإسناد أحمد، رحمه الله، من الأسانيد العالية، ففي مسنده نحو 300 حديث ليس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها غير 3 رواة، وقد أفردها السفاريني، رحمه الله، بالشرح، في "شرح ثلاثيات المسند".
ومن المسائل المهمة في هذا الموضع: مسألة زيادات المسند، حيث أن المسند الذي بأيدينا اليوم ليس كله من رواية الإمام أحمد، رحمه الله، ففيه زيادات لابنه عبد الله رواها عن غير أبيه، وفيه زيادات لأبي بكر القطيعي، رحمه الله، راوية المسند عن عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمه الله.
¥