وأيضا إذا طالعنا تعليقات الأئمة المعتبرين، على "سنن أبي داود"، وهي من أوفى كتب السنن، بل إنها قد تأتي في المرتبة الأولى من حيث الاستيعاب وجودة التصنيف، أو الثانية من حيث الصحة، إذا ما قدمنا عليها "سنن النسائي الصغرى" لأن شرطه فيها أقوى، نجد أن النقد الذي وجه لسنن الترمذي، وجه إليها، ومن ذلك قول ابن دقيق العيد رحمه الله: التمثيل ((بسنن أبي داود)) ليس يجيد عندنا لوجهين:
· الأول: أنها لا تحوي السنن المحتاج إليها.
· الثاني: أن في بعضها ما لا يحتج به في الأحكام. (مستفاد من بحث لطيف للأخ أبي يعلى البيضاوي، حفظه الله، أحد أعضاء منتدى المشكاة، بعنوان "أحاديث الأحكام"، وهو موجود في مكتبة منتديات المشكاة، وهو بحث نافع جدا في موضوعه، حيث تناول فيه أهم الكتب التي صنفت لجمع وشرح أحاديث الأحكام، أنصح إخواني بمطالعته).
وكانت البداية مع شيخ الصنعة وإمام هذا الفن، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، رحمه الله، المتوفى سنة 256 هـ، وفي ذلك يقول العراقي في الألفية:
أول من صنف في الصحيح ******* محمد وخص بالترجيح
حيث اقترح إسحاق بن راهويه، رحمه الله، على طلبته، وكان البخاري واحدا منهم، أن يجردوا الصحيح فقال: "لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فوقع ذلك في قلب البخاري، رحمه الله، وبدأ هذه الرحلة المباركة، التي استغرقت 16 سنة، لتجريد مختصر صحيح من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، فيه ما يزيد على 7000 حديث بالمكرر، و4000 حديث بغير المكرر. وهو كتاب جامع بين الحديث والفقه، يدل على تمكن مصنفه من الفقه حتى يصح أن يقال بأن البخاري قد بلغ درجة الاجتهاد المطلق، ويظهر هذا جليا في تراجمه، فهي إما أن تكون دالة دلالة مباشرة على الحكم الشرعي، وهذا لا إشكال فيه، وإما أن تشير إليه من طرف خفي، وهذا هو الغالب على معظم تراجمه، ولهذا اشتهر عن جمع من الفضلاء قولهم: فقه البخاري في تراجمه.
وجاء بعده مسلم، رحمه الله، ورأى أن يحذو حذو شيخه البخاري في تجريد الصحاح، بطرق خاصة به، فلم يرو عن البخاري، رغم إجلاله له، شيئا في صحيحه، لأنه لم يرد أن يجعل كتابه نسخة مكررة من كتاب شيخه، وإنما عمل ما يشبه بالمستخرج على كتاب شيخه، وزاد فيه زيادات، كما قرر ذلك الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني رحمه الله.
ومما شجع مسلم، رحمه الله، على تصنيف كتابه، ما شاع في عهده من الروايات المكذوبة التي روجها الزنادقة والقصاص بين الناس، فأراد أن يجمع للأمة كتابا صحيحا موثقا يغنيها عن تلك الروايات المكذوبة.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الموضع، مسألة عدم استيعاب الشيخين للأحاديث الصحيحة، وقد نصا على ذلك:
فقال البخاري: "ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح وتركت من الصحاح لملال الطول"، وقال: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح".
وقال مسلم: "ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا. إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه"، وقال: "إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت هو صحاح ولم أقل أن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب فهو ضعيف".
وهذا خلاف قول ابن الأخرم، رحمه الله، شيخ أبي عبد الله الحاكم النيسابوري، الذي قال بأنه قل ما يفوت البخاري ومسلما من الصحيح، وإلى هذه المسألة أشار العراقي، رحمه الله، بقوله:
ولم يعماه ولكن قلما ******* عند ابن الأخرم منه قد فاتهما.
ولا شك أن كلام ابن الأخرم لا يستقيم إلا بإضافة قيد "على شرطهما"، فإذا قلنا بأنه قل ما يفوت البخاري ومسلما من الصحيح، الذي اشترطاه، وهو أعلى الصحيح، فهذا قول مقبول، والواقع يشهد له، أما بقية الصحيح فلا شك أنه قد فاتهما منه عدد كبير، كما سبق من أقوالهما، وفي هذا رد حاسم على أهل البدع الذين حاولوا الترويج لقول من قال بأنه لا يصح من السنة النبوية بأكملها إلا أحاديث الصحيحين فقط، ليضيقوا دائرة الاستدلال بالسنة كخطوة أولى لإبطال الاحتجاج بها. ولعل هذا ما شجع ابن حبان، المتوفى سنة 354 هـ، في صحيحه، والدارقطني، المتوفى سنة 385 هـ، في "الإلزامات والتتبع" والحاكم النيسابوري، المتوفى سنة 405 هـ، في "المستدرك"، وأبو ذر الهروي
¥