على استدراك أحاديث صحيحة على الشيخين، ليثبتوا أن الصحيحين لم يشملا كل الأحاديث الصحيحة.
وممن تكلم في هذه المسألة: الحافظ أبو بكر البيهقي، المتوفى سنة 458 هـ، رحمه الله، فقال: "بأنهما اتفقا على أحاديث من صحيفة همام بن منبه وأن كل واحد منهما انفرد بأحاديث منها مع أن الإسناد واحد". اهـ، بتصرف يسير.
والواقع أنه لا يلزمهما هذا الاستدراك لأنهما حسما الأمر بنصهما على عدم اشتراط استيعاب الصحيح، كما سبق بيانه.
وقد حكى هذا الرأي الشيخ العلامة السيد أحمد شاكر، رحمه الله، في الباعث الحثيث، ص208، 209.
ولا يلزمهما هذا القول إلا على مذهب من يحكم على ظاهر الأسانيد، فيقول الإسناد واحد فعلام التمييز بين المتون؟!!!!، والواقع أن الشيخين قد يردان بعض المتون لشذوذ أو علة بانت لهما، ولم يتفطن لها الناقد المتأخر لأنه لم يحط بطرق الحديث إحاطتهما بها، فهما من قرون الرواية فضلا عن إمامتهما في هذا الباب، والله أعلم.
ولا شك أن رواية البخاري ومسلم عن راو ما في صحيحيهما، مما يقوي حاله، وخاصة إذا ما كانت روايتهما عنه في الأصول (أي الأحاديث المحتج بها في صلب الكتاب)، ولكن هذه القاعدة ليست مطردة لأن بعض الحفاظ تكلموا في بعض رواة الشيخين، وخاصة رواة مسلم، ومن أشهرهم عمرو بن مرزوق عند البخاري، وأسباط بن نصر وقطن بن نسير وأحمد بن عيسى المصري عند مسلم، وفي هذا يقول العراقي:
ففي البخاري احتجاجا عكرمة ******* مع ابن مرزوق وغير ترجمة
واحتج مسلم بمن قد ضعفا ******* نحو سويد إذ بجرح ما اكتفى.
ولا يعني هذا أن من لم يخرجا له فهو مجروح عندهم، لأنهما كما لم يستوعبا الأحاديث الصحيحة لم يستوعبا الرواة الذين توافرت فيهم صفات القبول والصحة وهم خلائق كثير يبلغ عددهم نيفا وثلاثين ألفا لأن تاريخ البخاري، على سبيل المثال، يشتمل على نحو من أربعين ألفا وزيادة وكتابه في الضعفاء دون سبعمائة نفس ومن خرج لهم في جامعه دون ألفين كما ذكر ذلك الحازمي، رحمه الله، في شروط الأئمة الخمسة.
وقد ذكر الحاكم، رحمه الله، في النوع الحادي والخمسين، جملة ممن لم يخرج لهم الشيخان، ولم يسقطوا لتمام عدالتهم، سواء من الصحابة، (وكلهم عدول دون حاجة للبحث)، أو من تلاهم من التابعين وأتباعهم.
وقد فسر الشيخ محمد أبو زهو، رحمه الله، في "الحديث والمحدثون" ص396، ثلاثة أسباب لعدم رواية الشيخين لهؤلاء الرواة مع تمام عدالتهم وهي:
· أولا: قد يكون الطريق إلى هؤلاء الرواة ضعيفا.
· ثانيا: قد يكون لهذا الراوي الثقة أصحاب أجلاء يحملون حديثه فلا يخشى على حديثه من الضياع.
· ثالثا: قد يكون الحديث عند هذا الثقة بإسناد نازل، وعند غيره بإسناد عال، فيفضل الشيخان الرواية بالإسناد العالي، لتأكدهما من صحة الحديث بوروده من طرق أخرى صحيحة، وعلى هذا يحمل صنيع مسلم، رحمه الله، في روايته عن بعض الضعفاء، كما تقدم.
وبالسبب الثاني، فسر الشيخ محمد زاهد الكوثري، في تعليقه على شروط الأئمة الخمسة للحازمي، عدم إخراج الشيخين لجمع من الأئمة الثقات فقال: ومما يتجه إليه النظر أن الشيخين لم يخرجا في الصحيحين شيئا من حديث الإمام أبي حنيفة مع أنهما أدركا صغار أصحابه، وأخذا عنهم ولم يخرجا أيضا من حديث الإمام الشافعي مع أنهما لقي بعض أصحابه، ولا أخرج البخاري من حديث أحمد إلا حديثين أحدهما تعليقا والآخر نازلا بواسطة مع أنه أدركه ولازمه، ولا أخرج مسلم في صحيحه عن البخاري شيئا مع أنه لازمه، ولا عن أحمد إلا قدر ثلاثين حديثا، ولا أخرج أحمد في مسنده عن مالك عن نافع بطريق الشافعي _ وهو أصح الطرق "كما قرر ذلك أبو منصور التميمي" أو من أصحها _ إلا أربعة أحاديث وما رواه عن الشافعي بغير هذا الطريق لا يبلغ عشرين حديثا مع أنه جالس الشافعي وسمع موطأ مالك منه وعد من رواة مذهبه القديم.
قال الشيخ: والظاهر من دينهم وأمانتهم أن ذلك من جهة أنهم كانوا يرون أن أحاديث هؤلاء في مأمن من الضياع لكثرة أصحابهم القائمين بروايتها شرقا وغربا وجل عناية أصحاب الدواوين بأناس من الرواة ربما كانت تضيع أحاديثهم لولا عنايتهم بها لأنه لا يستغني من بعدهم عن دواوينهم في أحاديث هؤلاء دون هؤلاء.
¥