قال الأستاذ (أي الشيخ الكوثري): ومن ظن أن ذلك لتحاميهم عن أحاديثهم أو لبعض ما في كتب الجرح والتعديل في هؤلاء الأئمة كقول الثوري في أبي حنيفة وقول ابن معين في الشافعي وقول الكرابيسي في أحمد وقول الذهلي في البخاري ونحوها فقد حملهم شططا. اهـ. نقلا عن "الحديث والمحدثون" للشيخ محمد أبو زهو ص 395 _ 396.
وقد آثرت نقل كلام الشيخ الكوثري كاملا في هذه المسالة، لما فيه من دقة وتحقيق، وإن كان الناظر فيه قد يلمس دفاع الشيخ عن أبي حنيفة، رحمه الله، ومعلوم أن الشيخ كان من متعصبة الأحناف إن لم يكن أشدهم وأشهرهم في العصر الحديث.
ولا شك أن القول بعدم اشتراطهما الرواية عن كل راو ثقة، يخرجنا من هذا المأزق بسهولة.
وثمة مسالة مهمة جدا، وهي المقارنة بين الصحيحين من حيث درجتهما، ويمكن تلخيص هذه المسالة في عدة نقاط:
· أولا: أن الجمهور على تقديم صحيح البخاري من حيث الصحة، ومسلم من حيث جودة التصنيف والترتيب وحسن الصناعة الحديثية، حيث جرد أبواب كتابه من المعلقات والموقوفات والمقطوعات، إلا في مواضع قليلة، كما ذكر ذلك ابن الصلاح، رحمه الله، في معرض توجيهه لقول من قال بأن مسلم مقدم على البخاري، وأما أبو علي النيسابوري، رحمه الله، ومعه جمع كبير من المغاربة فقد فضلوا مسلم على البخاري، خلافا للجمهور، وقد رد العراقي، رحمه الله، هذا القول في ألفيته فقال:
ومسلم بعد وبعض الغرب ******* مع أبي علي فضلوا ذا لو نفع.
أي لو نفع قولهم في تقديم مسلم على البخاري، ولكنه في الواقع غير نافع، ولذا علقه بـ "لو"، وممن أكد على أفضلية البخاري، أبو عبد الرحمن النسائي، رحمه الله، وهو من هو في تشدده وتحريه في نقد الرجال، وإلمامه بالأحاديث وعللها، فهو معدود من أئمة الجرح والتعديل والعلل، وأكد عليها أيضا الإسماعيلي، رحمه الله، في "المدخل".
· ثانيا: أن شرط البخاري أعلى من شرط مسلم، حيث أنه أدخل في باب الاتصال من شرط مسلم، حيث اشترط اللقاء بين الراوي وشيخه ولو مرة واحدة، حتى يطمئن الناقد لقوله "حدثنا" أو "عن فلان"، رغم أن الصيغة الأخيرة تحتمل التدليس، ولكن المسألة، كما يقول الحافظ، رحمه الله، مفروضة في غير المدلس، وأما مسلم، فقد اشترط المعاصرة مع إمكان اللقاء، وعدم وجود ما ينفيه، ولا شك أنه لا يلزم من المعاصرة، اللقاء أو السماع، فقد يعاصر الراوي شيخه بل ويلتقي به ومع ذلك لا يثبت له سماع منه، فإبراهيم النخعي، رحمه الله، على سبيل المثال، جاء في ترجمته: أنه دخل على عائشة، رضي الله عنها، ورغم ذلك لم يسمع منها، فروايته عنها منقطعة، رغم تعاصرهما بل ولقائهما، ومع ذلك فإن مسلم صدر أبوابه بالأحاديث التي صرح فيها الراوي بالسماع، وأخر الأحاديث التي وردت بالعنعنة. وفي تحرير هذا الخلاف يقول العراقي رحمه الله:
وصححوا وصل معنعن سلم ******* راويه من دلسة واللقا علم
وبعضهم حكى بذا إجماعا ******* ومسلم لم يشرط اجتماعا
لكن تعاصرا وقيل يشترط ******* طول صحابة وبعضهم شرط
والبيت الأول يدل على مذهب الجمهور، ومنهم البخاري، رحمه الله، فلا بد من ثبوت اللقاء ولو مرة واحدة كما تقدم.
والبيت الثاني يدل على مذهب مسلم، رحمه الله، حيث لم يشترط الاجتماع وإنما اشترط التعاصر فقط كما تقدم.
· ثالثا: أن شرط البخاري في الرجال أقوى، فمجموع من تكلم فيهم من رجال البخاري أقل ممن تكلم فيهم من رجال مسلم، ناهيك أنهم من شيوخ البخاري المباشرين، الذين سبر حديثهم وانتقى أجوده، كخالد بن مخلد القطواني، فلم يخرج له البخاري إلا من حديث سليمان بن بلال، ولم يكثر عنهم، خلاف مسلم، فمعظم من تكلم فيهم من رجاله من طبقات أعلى من شيوخه، فلم يلتق بهم ليسبر أحوالهم، ناهيك أنه أكثر من الرواية عنهم، فقد أخرج أكثر نسخهم، كأبي الزبير عن جابر، وسهيل بن أبي صالح عن أبيه، والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، وحماد بن سلمة عن ثابت البناني وغيرهم.
ومن المسائل التي تستحق المناقشة في هذا الموضع، مسالة دفاع ابن الصلاح، رحمه الله، عن مسلم لتخريجه أحاديث رجال من الطبقة الثانية في الحفظ والإتقان، حيث لخص دفاعه في أربع نقاط:
¥