حتى قال بعضهم "ولعل الشيخ محمد أبو زهو يعني الحافظ ابن حجر رحمه الله": ينبغي أن يجعل السادس كتاب الدارمي فإنه قليل الرجال الضعفاء نادر الأحاديث المنكرة والشاذة وإن كانت فيه أحاديث مرسلة وموقوفة فهو مع ذلك أولى منه.
وقال البعض الآخر بأن موطأ مالك هو السادس لصحته وجلالته، وممن ذهب إلى ذلك رزين السرقسطي، رحمه الله، المتوفى سنة 535 هـ في "تجريد الصحاح" وتبعه ابن الأثير، رحمه الله، المتوفى سنة 606 هـ في جامع الأصول.
ولعل من ضم كتاب ابن ماجه لكتب الأصول، نظر إلى كثرة زوائده الصحيحة على الكتب الخمسة وعددها 428 حديثا.
وقد اشتهر بين المحدثين القول بأن: كل ما انفرد به ابن ماجه فهو ضعيف، وكان أول من قرر ذلك: الحافظ المزي، إلا أن هذا الأمر ليس على إطلاقه كما قرر ذلك الحافظ رحمه الله بقوله: (إنه انفرد بأحاديث كثيرة وهي صحيحة فالأولى حمل الضعيف على الرجال)، فيقال: كل من انفرد ابن ماجه بإخراج حديثه فهو ضعيف.
وأخيرا يحسن بنا في هذا الموضع أن نذكر مقارنة موجزة بين شروط الأئمة الخمسة، كما قررها الحازمي رحمه الله:
فقد قرر الحازمي أن الرواة ينقسمون إلى طبقات، تبعا لإتقانهم وملازمتهم لمن يرون عنه، وكل طبقة عليا تتميز عن التي تليها حفظا وإتقانا، ويظهر هذا بشكل أكثر وضوحا، في طبقات الرواة عن إمام مشهور كالزهري، رحمه الله، وهو المثال الذي ضربه الحازمي ليقرر مسألة تفاوت طبقات الرواة، فقال بأن الرواة عن الزهري ينقسمون إلى خمس طبقات، رتبهم تنازليا، كما يلي:
· الطبقة الأولى: من جمعوا بين العدالة والحفظ والإتقان وطول الملازمة، كمالك وابن عيينة ويونس وعقيل الأيليين، وهي الغاية في الصحة وحديثها مقدم على حديث من يليها من الطبقات.
· الطبقة الثانية: من كانوا كالطبقة الأولى في العدالة، إلا أنهم نزلوا عن رجال الطبقة الأولى في الملازمة، فلم يمارسوا حديثه وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى كالأوزاعي والليث بن سعد والنعمان بن راشد.
· الطبقة الثالثة: من لازموا الزهري ملازمة طويلة كالطبقة الأولى غير أنهم لم يسلموا من غوائل الجرح فهم بين القبول والرد كسفيان بن حسين الأسلمي وجعفر بن برقان وعبد الله بن عمر العمري.
· الطبقة الرابعة: من جمعوا بين عدم السلامة من غوائل الجرح وعدم الملازمة الطويلة، كإسحاق بن يحيى الكلبي ومعاوية بن يحيى الصدفي وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة.
· الطبقة الخامسة: نفر من الضعفاء والمجهولين لا يجوز لمن يخرج الحديث على الأبواب أن يخرج حديثهم إلا على سبيل الاعتبار والاستشهاد كما عند الترمذي وابن ماجة. اهـ (بتصرف).
وعليه يمكن ترتيب الكتب الستة كالتالي:
· أولا: صحيح البخاري: لأن البخاري التزم إخراج حديث الطبقة الأولى، وقد يخرج من أحاديث الطبقة الثانية ما يعتمده من غير استيعاب (وعدم الاستيعاب قيد مهم)، وأما الطبقة الثالثة والرابعة والخامسة فلا يعرج عليها.
· ثانيا: صحيح مسلم: لأن مسلما التزم استيعاب أحاديث الطبقة الأولى والثانية (وهذا هو الفرق بينه وبين البخاري الذي انتقى من أحاديث الطبقة الثانية ولم يستوعبها)، وينتقي من أحاديث الطبقة الثالثة، (وهذا فرق آخر بين الشيخين لأن البخاري لم يعرج على أحاديث رجال الطبقة الثالثة)، ووافق مسلم البخاري في عدم إخراج أحاديث رجال الطبقة الرابعة والخامسة.
· ثالثا: سنن أبي داود والنسائي: حيث خرجا أحاديث الطبقات الأولى والثانية والثالثة في الأصول، (أي في صلب الكتاب)، (فنزلا عن مسلم لأن مسلم انتقى من أحاديث الطبقة الثالثة، ولم يخرجها بأكملها)، وفارقا مسلما أيضا في أنهما أخرجا أحاديث الطبقة الرابعة في الشواهد والمتابعات بينما تجنبها مسلم فلم يخرج لها ولو على سبيل الاعتبار.
· رابعا: سنن الترمذي: حيث وافق أبا داود والنسائي في إخراج أحاديث الطبقات الأولى والثانية والثالثة، ولكنه زاد عليه بإخراجه لأحاديث الطبقة الرابعة في الأصول، بل وتعدى ذلك إلى إخراج حديث الطبقة الخامسة في المتابعات والشواهد، ولكنه كما تقد م لا يخرجها منفردة، بل يخرجها في سياق سرد طرق الحديث وينبه على ضعفها.
· خامسا: سنن ابن ماجه: وهو كالترمذي يخرج أحاديث الطبقات الأولى والثانية والثالثة والرابعة، ولكنه زاد عليه بأنه أخرج أحاديث رجال الطبقة الخامسة ولم ينبه عليها كما فعل الترمذي. بتصرف من "الحديث والمحدثون" للشيخ محمد أبو زهو ص 387 _ 388.
وانتهت هذه المرحلة الذهبية بتدوين الأحاديث المعتمدة في هذه الكتب التي حفظت لنا الأحاديث المتداولة بين علماء الجماعة المسلمة والتي يحتج بها في العقائد والأحكام، ولم يتبق إلا جهود تكميلية أشبه بالزوائد على هذه الكتب لجمع الغرائب بعد اكتمال جمع المشاهير، والتصدي لشرح هذه الدواوين وبيان غريبها ومشكلها، وكانت هذه مهمة رجال المرحلة التالية.
والله أعلى وأعلم
يتبع إن شاء الله
¥