· ثانيا: ما أدى اجتهاده إلى تصحيحه من أحاديث ليست على شرطهما، وينبه عليه بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد، فالحاكم، رحمه الله، كما قرر ابن الصلاح، ممن أوتي آلة الاجتهاد المطلق، رغم تأخره عن قرون الرواية، بل إن ابن الصلاح، وهو ممن تشدد في مسألة تصحيح المتأخرين، قرر بأن آخر من يحق له التصحيح هو الحاكم، وواقع المستدرك لا يؤيد إطلاق هذا الحكم، لكثرة أوهام الحاكم، رحمه الله، فيه، ناهيك أن ما صححه مما هو ليس على شرط الشيخين، لم يشترط فيه إلا صحة الإسناد فقط، فهو ممن يحكم على ظاهر الأسانيد، وإن كان، رحمه الله، إماما مجمعا على إمامته في هذا الفن.
ولعل من أبرز أسباب كثرة أوهامه في المستدرك:
عدم اشتراطه انتفاء العلة والشذوذ، كما نص على ذلك، فهو يحكم على ظاهر الأسانيد، كما تقدم، وهذه طريقة المتأخرين الذين لا يلتفتون إلى الشذوذ والعلل الخفية ويكتفون بالحكم على ظاهر الإسناد، وهذا من الفروق الجوهرية بين المتقدمين والمتأخرين من علماء هذا الفن الجليل. ناهيك أنه كان حريصا على الرد على أهل البدع الذين زعموا أنه لم يصح من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ما أخرج في الصحيحين، فأراد أن يجمع أكبر قدر ممكن من الأحاديث التي على شرطهما ولم يخرجاها ليثبت عكس دعواهم الباطلة.
وقد تضاربت الآراء حول هذا المستدرك:
فمن متشدد: كأبي سعد الماليني، رحمه الله، حيث حكم بأنه ليس في المستدرك حديث على شرط الشيخين، ورد عليه الذهبي هذا الحكم، وقال بأن في المستدرك شيء كثير على شرطهما أو على شرط أحدهما ولعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب، وفيه نحو الربع مما صح سنده وإن كان فيه علة (لأنه لم يشترط السلامة منها، كما تقدم)، وما بقي وهو نحو الربع فهو مناكير وواهيات لا تصح وفي بعض ذلك موضوعات.
وهو بشكل عام من المتساهلين في التصحيح، ورغم ذلك نص ابن الصلاح، رحمه الله، على أن ما انفرد به الحاكم، ولم ينص متقدم على صحته، ولم يوجد في كتاب التزم مصنفه إيراد الصحيح فقط، فهو حسن يحتج به ما لم توجد به علة قادحة، والصحيح أنه يجب تتبع أحاديث الكتاب والحكم عليها بما يليق، وفي هذا يقول العراقي، رحمه الله، في ألفيته:
متساهل وقال ما انفرد ******* به فذاك حسن ما لم يرد
بعلة والحق أن يحكم بما ******* يليق والبستي يداني الحاكما
أي أن الحاكم متساهل، والضمير في قال عائد على ابن الصلاح، رحمه الله، والشطر الثاني من البيت الأخير، يوضح مكانة الحاكم بين نقاد الحديث فهو من طبقة مقاربة لأبي حاتم بن حبان البستي، رحمه الله، صاحب الصحيح، وإن كان ابن حبان أقل تساهلا، كما نص على ذلك الحازمي رحمه الله.
وقد اعتذر ابن حجر، رحمه الله، عما وقع فيه، الحاكم من تساهل بقوله: (إنما وقع للحاكم التساهل لأنه سود الكتاب لينقحه فعاجلته منيته ولم يتيسر له تحريره وتنقيحه. قال: وقد وجدت قريبا من نصف الجزء الثاني من تجزئة ستة من المستدرك: "إلى هنا انتهى إملاء الحاكم"، وما عدا ذلك من الكتاب لا يؤخذ عنه إلا بطريق الإجازة، والتساهل في القدر المملى قليل جدا بالنسبة إلى ما بعده) اهـ.
ومن أبرز الخدمات التي قدمت لهذا المستدرك الجليل:
تلخيص الذهبي، رحمه الله، المتوفى سنة 748 هـ، وتعقب كثيرا منه ببيان ضعفه أو نكارته أو وضعه وجمع جزءا في الأحاديث الموضوعة التي وجدت فيه فبلغت نحو مائة حديث، بينما ذكر له ابن الجوزي في "الموضوعات" ستين حديثا، وكثير منها في أحاديث الفضائل، لأن أحاديث الفضائل مظنة التساهل، وخاصة ما رواه في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، لأن الحاكم، رحمه الله، ممن وصف بأن فيه: نوع تشيع، وإن كان تشيعه من النوع الخفيف، فلم يقدح، رحمه الله، في الشيخين وعثمان، رضوان الله عليهم جميعا، بل أخرج أحاديث في فضائلهم، عقد لها أبوابا في كتاب معرفة الصحابة في مستدركه، وهذا غير متصور من شيعي غال، كما هو حال الإمامية الاثني عشرية في عصرنا الحاضر، وإنما يصح أن نصف الحاكم، رحمه الله، بأنه من: "شيعة أهل السنة"، كما كان الحال في الكوفة، لما ظهر التشيع، إذ قدم أهل الكوفة عليا على عثمان، رضي الله عنهما، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة، ولكنه خلاف سائغ لا ينكر على المخالف فيه، وهكذا كان حال الحاكم، رحمه الله، والله أعلم.
وقد لخص هذا التلخيص أبو حفص عمر بن رسلان بن الملقن، رحمه الله، شيخ الحافظ.
ومن المستدركات الأخرى:
· كتاب الإلزامات لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني البغدادي، رحمه الله، أمير المؤمنين في الحديث، المتوفى سنة 385 هـ. وقد جمع فيه ما وجده على شرط الشيخين من الأحاديث وليس بمذكور في كتابيهما وألزمهما ذكره، وهو غير لازم كما تقدم، ورتبه على المسانيد في مجلد لطيف. وشرطه أقوى من شرط الحاكم، لأنه اشترط عدم الشذوذ والعلة القادحة.
· والمستدرك على الصحيحين للحافظ أبي ذر الهروي، رحمه الله، المتوفى سنة 434 هـ، وهو كالمستخرج على كتاب الدارقطني.
والله أعلى وأعلم
يتبع إن شاء الله
¥