أما أهل السنة والجماعة فيرون أن التكفير حق لله تعالى لا يطلق إلا على من يستحقه شرعا، ولا تردد في إطلاقه على من ثبت كفره بإثبات شروط وانتفاء موانع).
"أصول الفرق الإسلامية"، ص291، 292.
فهذا رجل قد خبر القوم وعرف مذهبهم، بل ونشأ في أعرق مدارسه المعاصرة، فما بالكم تشنعون على أتباع المنهج السلفي في كل موطن، وترمونهم بعظائم الأمور، وما بال متأخريكم بل ومعاصريكم من أتباع المدرسة الأشعرية الصوفية يكيلون الاتهامات لشيخ الإسلام، رحمه الله، فيخرجونه من ملة الإسلام، جملة وتفصيلا، مع أن شيخ الإسلام أنصفكم، بل وأثنى عليكم في كتاباته، إذ يقول:
" ........ فإن الواحد من هؤلاء له مساع مشكورة في نصرة ما نصره من الإسلام والرد على طوائف من المخالفين لما جاء به الرسول ...................... ، وما من أحد من هؤلاء من هؤلاء ومن هو أفضل منه إلا وله غلط في مواضع".
درء التعارض، (8/ 275)، نقلا عن "أصول الفرق الإسلامية"، ص297.
ويقول: "والأشعرية خير من المعتزلة والرافضة عند كل من يدري ما يقول، ويتقي الله فيما يقول".
مجموع الفتاوى، (13/ 97، 98)، نقلا عن "المبتدعة وموقف أهل السنة والجماعة منهم"، ص211.
ويقول: "وهم يعدون أهل السنة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل السنة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم والمعتزلة والرافضة ونحوهم"، درء تعارض العقل والنقل، (2/ 102)، "المبتدعة وموقف أهل السنة والجماعة منهم"، ص211.
ولم يكفر ابن تيمية، رحمه الله، من ترصد له من الأشاعرة، بل واستتابه، واستصحب قاعدة العذر بالجهل في مناظرته لهم، فلم يكفرهم بلازم أقوال لو قالها هو لكفر، كما ذكر ذلك عنه، فلم يكفره البعض؟، في مسألة، علمية دقيقة، ولو افترضنا أنه أخطأ فيها، أما وسعه ما وسع رجلا كالرازي، رحمه الله، الذي أثنى عليه شيخ الإسلام، رحمه الله، رغم أخطائه الكبيرة، إذ اعتذر عنه بأنه كان ينصر ما يراه صوابا، ولم يقصر هذه القاعدة عليه بل عممها لتشمل كل أصحاب البدع وإن كانت مغلظة كبدع الإمامية والمعتزلة والجهمية ................... الخ، وإن كان موقفه من عقائدهم الكفرية، بنصها أو لازمها، واضحا صريحا.
والمساواة بين شيخ الإسلام، رحمه الله، ومحيي الدين بن عربي، على سبيل المثال، في مسألة التكفير، مساواة بين متباينين، إذ الأخير خاض في أمور لو عرضت على عامة المسلمين لاقشعرت منها أبدانهم، ويكفيه ما أحدثه من بدعة الاتحادية الخبيثة التي تبعه عليها بعض غلاة الصوفية كابن الفارض وابن سبعين والششتري والبلياني والتلمساني، إذ قالوا: إن كل شيء في الكون هو الله، حتى أنشد منشدهم، وهو ابن عربي فقال:
العبد حق والرب حق ******* يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك رب ******* أو قلت رب أنى يكلف
مجموع الفتاوى، (2/ 242)، عزوا إلى "الفتوحات المكية"، نقلا عن "المبتدعة وموقف أهل السنة والجماعة منهم"، ص93.
ولا أظن الأبدان تقشعر ابتداء من مسألة قدم العالم، على تفصيلاتها الدقيقة، لأن معظم الناس لن يفهمها أصلا، فما الحاجة إلى إثارتها ابتداء، ولو لم يخض فيها القوم لما رد عليهم شيخ الإسلام، رحمه الله، على أنني أعترف بأني وإن كنت ملما بطرف من هذه المسألة إلا أنني لا أعرف تفاصيلها الدقيقة التي تتطلب الحذر الشديد عند الخوض فيها، ومع ذلك أكرر على مسامع إخواني، أن الخطأ في تفاصيلها الدقيقة، إن ثبت وقوعه من شيخ الإسلام أصلا فالمسألة تحتاج لمزيد تحقيق، ليس كالخطأ الصريح الذي وقع فيه محيي الدين ابن عربي، ليساوي الناظر بينهما في مسالة التكفير، لأن خطأ الثاني لا يغفل عنه عاقل فضلا عن مسلم، وإن كان تكفيره لا يعنيني، فلست من أهل الاختصاص لأحكم على أحد بكفر أو إيمان، وإنما استوقفني حكم هذا الشيخ المعاصر، فجالت بخاطري هذه الكلمات حوله، وتاريخ شيخ الإسلام، رحمه الله، في مجابهة الفرق الضالة، وخاصة الفلاسفة ومن تأثر بهم من المعتزلة والأشاعرة وغلاة الصوفية مما يرجح كفته في درء هذا الاتهام الجائر، ولا أدعي له عصمة، ولو أهدرت أقوال عالم ما لخطأ وقع فيه لأهدرت أقوال علماء الإسلام برمتها، ولما بقي للأمة أئمة تقتدي بهم.
¥