ويضيف الدكتور النشار أنه قد وجد هنا وهناك جماعة من الفلاسفة هاجموا فكرة الألوهية وفكرة الدين على العموم ولم يطمئنوا أي اطمئنان إلى أي تفسير من تفسيرات الأديان على المصدر الإلهي للدين واستتبع هذا في نظرهم: إنسانية الدين، فالدين إنساني بحت وضع لغاية سما إليها الأنبياء وهي صلاح البشرية وإقامة العمران .. ولم يرض هذا كثيراً من علماء الأديان وقد حاولوا أن يجدوا في أساس البشرية الأولى اعتقاداً كامناً فطرياً ينقدح في نفس البدائي عن فكرة الإله السامي وأن الأديان في تطورها نحو أوج الكمال الوجودي إنما تعبر عن هذا الوجود السامي في عقائد هذا الإنسان الأول ـ فالدين إذاً ـ أو بمعنى أدق (الله) بديهية أولية في فجر الإنسانية وكذلك إلى ليلها وهي أعظم الأفكار بأنها أولها وأساسها ووجودها في فكر البدائي الأول دليل على وجودها في أبدية سرمدية خارجة عن العالم لأنها صانعة العالم وصانعة الإنسان (6).
ويقول الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله: أنه قد ذهب بعض كتاب القرن الثامن عشر الذين مهدوا للثورة الفرنسية إلى أن الأديان والقوانين ما هي إلا معممات مستحدثة وأغراض طارئة على البشرية .. هذه النظرة الساخرة للأديان والقوانين ليست مبتكرة وإنما هي ترديد لصدى مجون قديم كان يتفكه به أهل السفسطة من اليونان وكانوا يروجونه فيما روجوه من المغالطات والتشكيكات .. فلم تكن القوانين والديانات في تصويرهم إلا هروباً من السياسة الماهرة التي تهدف إلى علاج أمراض المجتمع بكل حيلة ووسيلة، ولقد أعان على بعث هذه الآراء وترويجها في أوربا الحديثة سببان: أحدهما الانحلال الخلقي عند نفر من رجال الكنيسة، والثاني ظلم القوانين الوضعية وسوء توزيع الثروة العامة. فكان من السهل أن يظن الناس أن الدين والقانون كانا كذلك في كل زمان ومكان.
على أنه لم ينقض القرن الثامن عشر حتى ظهر خطأ هذه المزاعم حيث كثرت الرحلات إلى خارج أوربا واكتشفت العادات والعقائد والأساطير المختلفة وتبين من مقارنتها أن فكرة التدين فكرة مشاعة لم تخل منها أمة من الأمم في القديم والحديث رغم تفاوتهم في مدارج الرقي ودركات الهمجية .. (7).
ويجمل الأستاذ العقاد الأسباب التي ساهمت في نشر الشك والمادية في عقول المفكرين الغربيين في خمسة أسباب:
مسألة دوران الأرض، مسألة القوانين المادية أو الآلية، مذهب النشوء والارتقاء، علم مقارنة الأديان، مشكلة الشر وعلاقتها بالقدرة الإلهية (8).
ويحكي عن الماديين في الزمن الأخير وكيف يحسبون أنفسهم بأنهم جماعة تقدم وإصلاح للعقول وتقويم لمبادىء التفكير. والواقع أنهم في إنكارهم كل ما عدا المادة يرجعون القهقرى إلى أعرق العصور في القدم ليقولوا للناس مرة أخرى إن الموجود هو المحسوس وإن المعدوم في الأنظار والأسماع معدوم كذلك في ظاهر الوجود وخافيه، وكل ما بينهم وبين همج البداءة من الفرق في هذا الخطأ أن حسهم الحديث يلبس النظارة على عينيه ويضع السماعة على أذنيه! ويحسبون على هذا أنهم يلتزمون حدود العلم الأمين حين يلتزمون حدود النفي ويصرون عليه في مسألة المسائل الكبرى وهي مسألة الوجود ... (9).
وعلم أن علوم الأديان لجميع الأمم لا يعني عمومها لكل أفرادها، فإنه لا تخلو أمة من وجود (ذاهلين) قد غمرتهم تكاليف الحياة وأعباؤها إلى حد أنهم لا يجدون من هدوء البال وفراغ الوقت ما يمكنهم من رفع رؤوسهم للنظر في تلك الحقائق العليا، كما لا تخلو أمة من (مفكرين ساخرين) يحسبون الحياة لهواً ولعباً ويتخذون الدين وهماً وخرافة لكن هؤلاء دائماً هم الأقلون في الأمة وهم في الغالب من المترفين الذين لم يصادفهم من عبر الحياة وأزماتها ما يشعر نفوسهم معنى الخضوع والتواضع وما ينبه عقولهم إلى التفكير في بدايتهم ونهايتهم.
وهذا الاستثناء من القاعدة لا ينفي كمون الغريزة الدينية بصفة عامة في طبيعة النفس الإنسانية كما أن غريزة بقاء النوع لا يمنع من عمومها أن بعض الناس لا يتزوجون ولا ينسلون (10).
ونذكر في هذا المقام أن الإمام الغزالي عندما ناقش الفلاسفة ورد على تخبطهم في مفهوم الألوهية لم يتكلم عن منكري الألوهية وإنما اكتفى بقوله عنهم: ( .. شرذمة يسيرة من ذوي العقول المنكوسة، والآراء المعكوسة الذين لا يؤبه لهم ولا يعبأ بهم فيما بين النظار .. ) (11).
لقد كان الدين وما يزال مفجر طاقات ومعالجاً للأمراض النفسية والاجتماعية وكافلاً لإقامة التوازن بين الجسم والروح والعقل وضابطاً للانفعالات السيئة والعواطف المنحرفة والميول الجامحة ومعيناً لا ينضب من الراحة والطمأنينة. فالمظلوم ينتظر ذاك اليوم الذي سيأخذ فيه حقه من الظالم عند ملك الملوك، والشهيد يستيقن بأن له الجزاء الأوفى، والعالم يدرك أن نتيجة التفكر والبحث أعلى المراتب، وكذلك الغني الشاكر والفقير الصابر ... فالجميع في ثبات وسكينة وفي مثل هذا المفهوم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) رواه مسلم.
أضف إلى ذلك تأثيره الخلقي في الفرد والمجتمع فقد رأى (فيخته) تلازماً بين الدين والأخلاق فقال: (إن الدين من غير أخلاق خرافة والأخلاق من غير دين عبث). ولم ير (كانت) ضماناً للأخلاق يوثق به غير الدين ... (12).
بل ذهب أفلاطون إلى أبعد من ذلك فقد رأى أن يكره المواطنون جميعاً على الاعتقاد بألوهيته وإلا كان عقابهم الإعدام أو السجن ... ووجه الطرافة في منحاه أنه لم يكترث كثيراً لكون الديانة حقيقية أو غير حقيقية وإنما اكتفى بالتعويل على أثرها من الناحية الخلقية (13).
¥