والنوع الثالث من هذه المظاهر كالميل لاحترام الأبطال والميل لعبادة الله، والشعور بالنقص والعجز والاحتياج وغيرها، ترجع إلى غريزة التدين، لأن هذه المظاهر تدفع الإنسان إلى البحث عن خالق قادر كامل، لا يستند في وجوده إلى شيء، وتستند المخلوقات في وجودها إليه.
فالغريزة خاصية فطرية موجودة في الإنسان من أجل المحافظة على بقاءه، ومن أجل المحافظة على نوعه، ومن أجل أن يهتدي بها إلى وجود الخالق، وهذه الغريزة لا يقع الحس عليها مباشرة، وإنما يدرك العقل وجودها بإدراكه مظاهرها.
لقد خلق الله الخاصيات، وألهم الإنسان أو الحيوان استعمالها، قال تعالى على لسان موسى في رده على فرعون: (?قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) ? أي وضع في كل شيء خاصياته وهداه بواسطة هذه الخاصيات إلى القيام بأعمال يشبع بها جوعاته من غرائز وحاجات عضوية، وقد فسر بعضهم هذه الآية: إن الله خلق لكل حيوان ذكر حيواناً أنثى من جنسه وألهمه كيفية النكاح، ففسروا كلمة (خلقه) أي مثله في الخلق. والمعنى الأول أعم، وتحتمله ألفاظ النص، فهو أصح لأن الآية مصدرة بلفظ كل شيء، وكل شيء لفظ عام يشمل كل مخلوق. قال تعالى: ? (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً) ?، أي أعطاها خاصية تمكنها من بناء خلاياها في الجبال.
وقد أشار الله إلى بعض مظاهر هذه الغرائز، قال تعالى: (?أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون) ? فخلق الله للإنسان أشياء، ومنها الأنعام من أجل أن يتملكها ليشبع حب التملك الذي هو مظهر من مظاهر غريزة البقاء.
وقال تعالى مخاطباً إبراهيم عليه السلام: (?قال إني جاعلك في الأرض إماما، قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين?) فحب إبراهيم لذريته وهو مظهر من مظاهر غريزة النوع، جعله يسأل الله سبحانه الإمامة لذريته، وذلك ليشبع غريزة النوع التي فطر عليها، فرد عليه رب العالمين: (لا ينال عهدي الظالمين) مبيناً أن الإمامة ستكون لذريته الصالحين، ولن يشمل هذا العهد الظالمين منهم.
وقال تعالى في سورة يوسف: (?ولقد همَّت به وهمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه) ? فالميل الجنسي وهو مظهر من مظاهر غريزة النوع موجود عند زوجة العزيز، فهمَّت بيوسف بدافع من هذا الميل لتشبع غريزة النوع، وهذا المظهر موجود أيضاً عند يوسف ولكنه لم يتصرف تصرفها لأن الله سبحانه وتعالى أراه ما منعه من هذا الهمّ، فكلمة (لولا) أداة امتناع لوجود، فقد امتنع يوسف عن الهمّ بها بسبب رؤيته برهان ربه، فيكون معنى الآية، لولا أن رأى يوسف برهان ربه لهمَّ بزوجة العزيز نتيجة ميله الجنسي إليها، ولكنه لم يهمَّ بها لأنه رأى من الله ما منعه من الهمّ بها.
وقال تعالى: ? (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه) ? وقال: ? (إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً?) فالإنابة إلى الله، والخوف من عذابه من مظاهر غريزة التدين.
والغرائز الثلاث موجودة في الإنسان، ولا يمكن القضاء عليها، ولا أن يسلبها الإنسان من الإنسان، ولكن بعض مظاهر الغريزة الواحدة يمكن كبتها أو محوها وإحلال أحدها محل الآخر، فيمكن أن يحل حب الزوجة محل حب الأم، وحب السيادة محل حب التملك وتقديس البشر والأصنام محل عبادة الله، ولكن لا يمكن محو الغريزة كلها واستئصالها من الإنسان، لأن الغريزة جزء من ماهية الإنسان، بينما المظهر الغريزي ليس جزءاً من ماهية الإنسان.
أما كيف يدرك الإنسان انتماء مظهر من المظاهر إلى غريزة من الغرائز، فإنه يدرس واقع المظهر، فإن كان المظهر ميلاً أو إحجاماً ينتج عنه عمل يخدم بقاء الإنسان ذاته، فإن هذا المظهر ينتمي لغريزة البقاء، كالخوف والشجاعة، والبخل وغيرها، وإن كان المظهر ينتج عنه عمل يخدم بقاء النوع الإنساني كان هذا المظهر ينتمي لغريزة النوع كالحنان والعطف والميل الجنسي وغيرها.
وإن كان ينتج عن المظهر عمل يخدم شعور الإنسان بالعجز وبحاجته إلى الخالق، كان هذا المظهر ينتمي لغريزة التدين، كالخوف من اليوم الآخر، وكالميل لاحترام الأقوياء، وكالإعجاب بنظام الكون وغيرها.
¥