تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وعودة إلى الآية محل البحث، إذ أولها وآخرها لا يرجح كفة من ادعى أن الجعل في هذه الآية كوني قدري، بمعنى أن الإمامة، بمفهومها المنحرف عند القوم، جعل كوني، كالنبوة تماما، فالله يختار من يشاء من الأئمة المعصومين الذين يحتج بأقوالهم على الشرع، تماما، كما يختار الأنبياء الذين يتنزل الوحي عليهم، واستدلالهم خاطئ من وجوه:

الوجه الأول: أنهم عمدوا إلى حقيقة لغوية، وهي الإمامة بمعناها اللغوي الذي يشير، أول ما يشير، إلى معنى الاقتداء الذي لا يلزم منه تمام المتابعة بحيث تصبح أقوال المقلد، بفتح القاف، دينا يتعبد به، وإن تعارضت مع نصوص الكتاب والسنة، إن صحت نسبتها أصلا إلى من ألصقت به فكثير من أقوالهم ننزه نحن أهل السنة آل البيت رضوان الله عليهم عنها، فلفظ الإمامة بهذا المعنى العام الواسع لا يمكن الاستدلال به على المعنى الاصطلاحي الخاص الضيق الذي أحدثه القوم، فالحقائق اللغوية غير الحقائق الاصطلاحية، ولا يلزم من اشتراكها اللفظي، تطابقها في المعنى، تماما، كالمشتركات اللفظية بين شتى فنون العلم، كمصطلح "الخبر" على سبيل المثال، فهو من الناحية اللفظية: لفظ واحد، ولكنه يدل على حقائق اصطلاحية متعددة تبعا لتعدد العلوم التي يستعمل فيها، فالخبر عند النحاة: هو ما تحصل به الفائدة مع مبتدأ غير الوصف، وعند علماء الحديث، يطلق تارة ويراد به المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة أخرى ويراد به كل أقسام الحديث سواء أكان مرفوعا أم موقوفا أم مقطوعا، ويطلق عند المؤرخين: على أي خبر تاريخي، سواء تعلق به حكم شرعي أم لا، وسواء كان في عهد النبوة أم قبلها أم بعدها، فاتحد اللفظ واختلف المعاني، وكذا الحال هنا، لا يصح تضييق عموم لفظ الإمامة ليختص بمعنى اصطلاحي اتفقت عليه جماعة بلا دليل شرعي، بل على العكس، ما فعل القوم ما فعلوا إلا ليجعلوه هو نفسه دليلا على صحة مذهبهم، مع أنه مفتقر في نفسه لدليل يثبت صحته، فداروا في حلقة مفرغة، واستدلوا على الشيء بنفسه، وليست هذه أول مرة يقع فيها القوم في هذا المأزق، وإنما ألجأهم إليه افتقارهم لأدلة معتبرة تعضد مذهبهم، فجعلوا شبه الأدلة أدلة، بل أركانا يقوم عليها المذهب، ومن سمات المذاهب المخالفة لأهل السنة، من أهل القبلة، أنهم يبدءون بتأصيل الأصول، ثم ينظرون في الأدلة طلبا لمعضد لها، فالأدلة عندهم تابعة لا متبوعة، تماما كما فعل المعتزلة لما أرادوا الانتصار لمذهب خلق القرآن، إذ أصلوا الأصل أولا ثم راحوا يبحثون في النصوص عن أي دليل يعضد مقالتهم، فاستدلوا بأدلة تصلح للاستدلال عليهم لا لهم، كقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، إذ لم تع عقولهم من معاني الجعل إلا: الخلق، لعجمة في ألسنتهم، فقالوا: القرآن مجعول أي مخلوق، مع أن الصحيح، كما تقدم من كلام ابن كثير رحمه الله، أن الجعل، مشترك لفظي، والاشتراك اللفظي نوع إجمال، لا يعرف بيانه إلا تبعا للسياق الذي يرد فيه، إذ المعنى المراد هنا: الإنزال، وهكذا كل محدث يحدث الأمر أولا ثم يتلمس دليله، والصحيح أن يبدأ المستدل من النص، فيستنبط القول من النص الصحيح، لأن النص أصل متبوع، والنظر لاستنباط قول ما فرع تابع، وهذا من أبرز معالم الاستدلال عند أهل السنة والجماعة وحق لكل سني أن يعض عليه بالنواجذ ليسلم من محدثات الأمور، والله أعلم.

والوجه الثاني: أن صدر الآية، كما تقدم، لا يعضد ترجيح كون الجعل قدريا كونيا، لأن الابتلاء الوارد في صدر الآية: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ)، يدل، أول ما يدل، على نوع تكليف، والتكليف يكون بالشرع لا القدر، فلم يكلف الله، عز وجل، أحدا من عباده، أن يكون طويلا، أو أبيضا، أو أن يمرض، أو يموت، ..................... الخ، وإنما كلف العباد بالتكاليف الشرعية من الواجبات والمندوبات فعلا، والمكروهات والمحرمات تركا، والمباحات، عند من يقول بأن المباح مكلف به، من جهة كونه متعلقا بفعل المكلف، أو من جهة كونه وسيلة لغيره من الأحكام التكليفية، أو من جهة اعتقاد إباحته، ......................... الخ، على تفصيل يطلب من كتب الأصول، وحتى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير