الابتلاء الكوني، كالمصائب والملمات، لا يخلو من نوع تكليف، إذ المكلف مطالب بالصبر عند نزول الشدائد، والصبر، في حد ذاته، عبادة، امتدح الله، عز وجل، فاعلها، كما في قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، والبشرى لا تكون إلا في حق من امتثل أمر الشارع عز وجل.
وقد جاء الابتلاء في عدة مواضع دالا على الابتلاء الشرعي، كما في:
قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
يقول ابن كثير رحمه الله: "أي: أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة، ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله".
وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
يقول ابن كثير رحمه الله: "وقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} أي ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحنكم به، ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره، والفقير في فقره ويسأله عن صبره".
وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)
يقول ابن كثير رحمه الله: "أي: خلق السموات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه وحده لا شريك له، ولم يخلق ذلك عبثا، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} ................. ، وقوله: {لِيَبْلُوكُمْ} أي: ليختبركم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} ولم يقل: أكثر عملا بل {أَحْسَنُ عَمَلا} ولا يكون العمل حسنا حتى يكون خالصا لله عز وجل، على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمتى فقد العمل واحدا من هذين الشرطين بطل وحبط".
وقوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)
يقول ابن كثير رحمه الله: "ومعنى الآية: أنه أوجد الخلائق من العدم، ليبلوهم ويختبرهم أيهم أحسن عملا، .................. ، وقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} أي: خير عملا كما قال محمد بن عَجْلان: ولم يقل أكثر عملا".
وقوله تعالى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ).
يقول ابن كثير رحمه الله: " {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} أي: الاختبار الواضح الجلي، حيث أمر بذبح ولده، فسارع إلى ذلك مستسلما لأمر الله، منقادا لطاعته، ولهذا قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} ".
وقد قصدت نقل النصوص السابقة في تعريف الابتلاء، إذ كلها مجمعة، تقريبا، على تعريف الابتلاء بأنه: الاختبار بالتكاليف الشرعية، ليعلم الله، عز وجل، الشقي من السعيد، علم ظهور وانكشاف، وهو العلم الثاني الذي هو مناط الثواب والعقاب، لا العلم الأزلي الأول، الذي أمر الله، عز وجل، القلم بكتابته، فكتب ما سيكون إلى يوم القيامة، كما في حديث عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، عند أحمد، رحمه الله، في مسنده، والله أعلم.
¥