وهو بحسب المفهوم وإن كان شاملاً للنبي والخليفة وإمام الصلاة، بل كل من يقتدي به في شيء ولو باطلاً كما يشير إليه قوله تعالى: {وجعلناهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} [القصص: 1 4] إلا أن المراد به ههنا النبي المقتدى به، فإن من عداه لكونه مأموم النبي ليست إمامته كإمامته، وهذه الإمامة إما مؤبدة كما هو مقتضى تعريف الناس وصيغة اسم الفاعل الدال على الاستمرار ولا يضر مجيء الأنبياء بعده لأنه لم يبعث نبي إلا وكان من ذريته ومأموراً باتباعه في الجملة لا في جميع الأحكام لعدم اتفاق الشرائع التي بعده في الكل، فتكون إمامته باقية بإمامة أولاده التي هي أبعاضه على التناوب، وإما مؤقتة بناء على أن ما نسخ ولو بعضه لا يقال له مؤبد وإلا لكانت إمامة كل نبي مؤبدة ولم يشع ذلك، فالمراد من (الناس) حينئذ أمته الذين اتبعوه، ولك أن تلتزم القول بتأبيد إمامة كل نبي ولكن في عقائد التوحيد وهي لم تنسخ بل لا تنسخ أصلاً كما يشير إليه قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده}. اهـ
والراجح، والله أعلم، عدم قصر الإمامة، على هذا المعنى المخصوص، بل هي عامة في حق كل من استوفى شروطها، عربيا كان أم أعجميا، والله أعلم.
وأما أبو حيان، رحمه الله، فقد بدأ كلامه على هذه الآية بذكر معنى "الإمام" إذ يقول:
الإمام: القدوة الذي يؤتم به، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وللطريق: إمام، وهو مفرد على فعال، كالإزار للذي يؤتزر به. اهـ
ويقول في موضع آخر:
وفي ري الظمآن الابتلاء: إظهار الفعل، والاختبار: طلب الخبر، وهما متلازمان.
وكلامه مشابه لكلام الألوسي، وإن زاد عليه معنى الطريق ووزن "إمام" على وزن "إزار"، فضلا عن المعاني التي نقلها عن "ري الظمآن".
ولم يخرج أبو حيان، رحمه الله، عن معنى الاختبار بالتكاليف الشرعية الذي ارتضاه من سبق نقل كلامهم، إذ يقول:
والابتلاء: الاختبار، ومعناه أنه كلفه بأوامر ونواه. والباري تعالى عالم بما يكون منه. وقيل: معناه أمر. اهـ
فعلمه، كما سبق، ليعلم المطيع من العاصي، علم ظهور وانكشاف يتميز به المطيع من العاصي، كما في:
قوله تعالى: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ).
وقوله تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا).
وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ).
وأما الزمخشري، غفر الله له، فكلامه في هذا الموضع لا يخلو من دسيسة اعتزال، لأن الآية تتعلق بابتلاء المكلفين واختبارهم، وقد زل المعتزلة في هذا الموضع أيما زلل، إذ نفوا القدر تنزيها، لله، عز وجل، زعموا، فنسبوه للعجز، تعالى عما يقولون علوا كبيرا، ويكفينا في هذا الموضع أن نشير إجمالا إلى عقيدة أهل السنة في هذه المسألة، باعتبارها من المسائل التي تميز فيها أهل السنة عن غيرهم من الفرق، كالمعتزلة نفاة القدر ومن تبعهم من متأخري الإمامية من جهة، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في "منهاج السنة" (1/ 127_130) طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود، والجبرية الذين غلوا في إثبات القدر من جهة أخرى حتى نفوا قدرة العبد، وجوزوا نسبة الظلم لله، عز وجل، لإثبات قدرته.
فأهل السنة وسط بين الفريقين: يثبتون قدرة الله، عز وجل، المهيمنة، ويثبتون للعبد إرادة مخلوقة مؤثرة يختار بها أفعاله دون أن تخرج عن قدرة الله، عز وجل، مع كونه غير مجبور على فعله، فإن قيل كيف؟، فالجواب: قوله تعالى: (ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، فهو، عز وجل، ليس كمثله شيء في أفعاله، والقدر من أفعاله، كما أنه، عز وجل، ليس كمثله شيء قي ذاته وصفاته، فلا يتصور في حق غير الله، عز وجل، أن يكون لأحد تأثير في قدرة أحد مع كون الثاني غير مجبور، ولكن الخالق، عز وجل، لا يقاس على المخلوق، وإنما مناط المسألة: هل يقدر الله، عز وجل، على أن يخلق فعلي ويخلق إرادتي ويقدر على هذا الفعل دون أن أكون مجبورا عليه؟، فإن قال العبد:
¥