تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقا، وتباينت طرقهم وأقوالهم. فاعلم أن المراد نوعان:

مراد لنفسه، ومراد لغيره. فالمراد لنفسه، مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.

والمراد لغيره، قد لا يكون مقصودا لما يريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث قضاؤه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان، لاختلاف متعلقهما. وهذا كالدواء الكريه، إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتآكل، إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة، إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه. بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب، وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف بمن لا يخفى عليه خافية، فهو سبحانه يكره الشيء، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره، وكونه سببا إلى أمر هو أحب إليه من فوته". اهـ

"شرح العقيدة الطحاوية"، ص229.

والله، عز وجل، خالق العباد وأفعالهم، فلا يستقل العبد بخلق أفعاله، وإن كانت له قدرة مؤثرة في وقوعها، ولكنها لا تستقل بإيجاد الفعل، وإن كانت سببا مؤثرا في ذلك، فإن السبب لا بد له من مسبِب، فقدرة العبد لا تخرج عن قدرة الرب، جل وعلا، فهو الذي خلق طاقة الفعل وخلق ذات الفعل، وهو القادر على أن يكتب على العبد أفعاله ويجعلها تقع منه بلا إكراه أو إلجاء، وهو ما يجده كل أحد من نفسه، مصداق قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، فلا تستقل قدرة العبد عن قدرة الرب، جل وعلا، بل هي خاضعة لها خضوع العبد للرب، جل وعلا، فخضوع الصفات والأفعال فرع على خضوع الذوات، فكما أن ذوات الخلق خاضعة للخالق، عز وجل، فكذلك صفاتهم وأفعالهم، فلا يقع إلا ما أراده الله، عز وجل، كونا، وإن تخلفت إرادته الشرعية، فإن ذلك لا يقدح في طلاقة قدرته، إذ ما أطاع الطائع، ولا عصى العاصي إلا بمشيئته.

وقد أرانا الله، عز وجل، في عالم الشهادة ما يدل على ذلك، فيصح إجراؤه من باب: قياس الأولى الجائز في حق الله، عز وجل، فقد يأمر أحدنا صاحبه بأمر فيه مصلحة للمأمور، والآمر لا يريد وقوعه لأن في في ذلك تفويتا لمصلحة أعظم له، ولله المثل الأعلى، فإنه يأمر الكافر بالإيمان شرعا، وهو لا يريده كونا، لأن في وقوعه تفويتا لمحبوب أعظم كما تقدم.

يقول ابن أبي العز رحمه الله:

"فإن قيل: كيف يرضى لعبده شيئا ولا يعينه عليه؟ قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة. وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} - الآيتين. فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله، وهو طاعة، فلما كرهه منهم ثبطهم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي تترتب على خروجهم مع رسوله، فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}، أي فسادا وشرا، {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ}، أي سعوا بينكم بالفساد والشر، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، قابلون منهم مستجيبون لهم، فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه. فاجعل هذا المثال أصلا، وقس عليه". اهـ

"شرح العقيدة الطحاوية"، ص233.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير