تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد يعطي الأب ابنه مالا ليشتري له شيئا، وهو يعلم أنه سيضيعه، فيسبق علم الأب فعل الابن، ولله المثل الأعلى، فإن علمه الأزلي قد سبق أفعال عباده، فأوجدهم ليظهر علمه فيهم، مصداق قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)، فليس علما مستأنفا كعلم البشر الذين يعلمون الشيء بعد وقوعه، وإنما هو: علم ظهور وانكشاف تقام به الحجة عليهم فيستحقون الثواب والعقاب، إذ لا ثواب ولا عقاب قبل وقوع الفعل، وإن كان مكتوبا على فاعله من الأزل، وذلك عين العدل الإلهي، فإن الله، عز وجل، لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون مصداق قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، فالظلم إنما يقع ممن افتقر إلى ما في يد غيره، فظلمه إياه، والله، عز وجل، هو الغني عن خلقه، بل كلهم إليه مفتقرون، فهو المغني لهم من فضله، فكيف يظلمهم بجبرهم على كفر أو معصية، فهذا جانب الحكمة، وكيف يعجزونه بإيقاع ما لم يشأ، فهذا جانب القدرة، ومناط الأمر كما تقدم: حكمة بالغة وقدرة تامة. فهو الذي تنزه عن الأمر بالفحشاء شرعا، فهذا من حكمته، وهو الذي لا يقع في ملكه إلا ما شاءه كونا، فهذا من قدرته.

يقول الآجري رحمه الله:

"فمن جرى في مقدور الله عز وجل أن يؤمن آمن، ومن جرى في مقدوره أن يكفر كفر قال الله عز وجل: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن، والله بما تعملون بصير)، أحب من أراد من عباده، فشرح صدره للإيمان والإسلام، ومقت آخرين، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فلن يهتدوا إذا أبدا، يضل من يشاء ويهدي من يشاء: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، الخلق كلهم له يفعل في خلقه ما يريد، غير ظالم لهم، جل ذكره أن ينسب ربنا إلى الظلم إنما يظلم من يأخذ ما ليس له بملك، وأما ربنا تعالى فله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، وما تحت الثرى، وله الدنيا والآخرة، جل ذكره، وتقدست أسماؤه، أحب الطاعة من عباده وأمر بها، فجرت ممن أطاعه بتوفيقه لهم، ونهى عن المعاصي، وأراد كونها من غير محبة منه لها، ولا للأمر بها، تعالى عز وجل عن أن يأمر بالفحشاء، أو يحبها وجل ربنا وعز أن يجري في ملكه ما لم يرد أن يجري". اهـ

"الشريعة"، ص129، 130.

والعبد لا يصح في حقه أن يحتج بما لا يعلم من قدر الله، عز وجل،على ما يقع منه من كفر وعصيان، إذ كيف يحتج بما لا يعلم، ومن بديع ما أثر من كلام السلف قول بعضهم: إن الله أراد بك أشياء ولم يكلفك علمها، وأراد منك أشياء وكلفك عملها، فلا تشغل نفسك بما أريد بك عما أريد منك. هذا معنى كلامه. فما أريد بك: أمره الكوني النافذ، وما أريد منك: أمره الشرعي الذي بعثت به الرسل عليهم الصلاة والسلام.

ومما تقدم يظهر أن تلك الشبهة: شبهة باردة إذ الأمر في هذه الآية: أمر كوني قدري يتبع المشيئة الإلهية النافذة، وهي تشمل: الخير والشر، المحبوب والمكروه، بخلاف الأمر الشرعي، في نحو قوله تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)، وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَتُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ لَا تَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالظُّرُوفِ الْمُزَفَّتَةِ وَالْحَنْتَمَةِ".

واختار الشيخ الشنقيطي، رحمه الله، في "أضواء البيان" أن الأمر في الآية: شرعي، فيكون في الكلام حذف اقتضاه السياق، فتقدير الكلام: أمرنا مترفيها بالأمر الشرعي، فأعرضوا عنه وفسقوا في قريتهم فحق عليها القول فدمرها الله، عز وجل، تدميرا.

يقول الشيخ رحمه الله:

"في هذه الآية الكريمة ثلاثة مذاهب معروفة عند علماء التفسير:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير