تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثانياً: النظرُ في المناهي، فإذا عرَف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبةِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحية.

ثالثاً: محاسبةُ النفس على الغفلةِ، ويَتَدَاركُ ذلِك بالذكرِ والإقبالِ على ربِ السماوات ورب الأرض رب العرش العظيم.

رابعاً: محاسبةُ النفس على حركاتِ الجوارح، وكلامِ اللسان، ومشيِ الرجلين، وبطشِ اليدين، ونظرِ العينين، وسماعِ الأذنين، ماذا أردتُ بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته؟

* * *

قال ابن قدامة في كتابه: مختصر منهاج القاصدين:

وتحققَ أربابُ البصائر أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار - الناتجة عن عدمِ محاسبة النفس - إلا لزومُ المحاسبةِ لأنفسِهم وصِدْقُ المراقبة، فمن حاسبَ نفسهُ في الدنيا خفَّ حسابه في الآخرة، ومَن أهملَ المحاسبة دامتْ حسراته، فلما علموا أنهم لا يُنجيهم إلا الطاعة، وقد أمرَهم بالصبرِ والمرابطةِ فقالَ سبحانه:} يا أيُّها الَذينَ آمَُنواْ اصبِروا وَصابِرواْ ورابِطوا {فرابطوا أنفسَهم أولاً بالمشارطةِ ثمّ بالمراقبة، ثم بالمحاسبةِ ثم بالمعاقبة، ثم بالمجاهدةِ ثم بالمعاتبة، فكانتْ لهم في المرابطةِ سِتُّ مقاماتٍ أصلُها المحاسبة، ولكنْ كلّ حسابٍ يكونُ بعدَ مشارطةٍ ومراقبة، ويتبعهُ عندَ الخُسران المعاتبةُ والمعاقبة. نأخذها الآنَ بشيءٍ منَ التفصيل:

المقامُ الأول: المشارطة:

اعلم أنّ التاجرَ كما يستعينُ بشريكهِ في التجارةِ طلباً للربح، ويشارطهُ ويحاسبه، كذلك العقلُ يحتاجُ إلى مشاركةِ النفس وشرطِ الشروطِ عليها وإرشادِها إلى طريقِ الفلاح، والتضييقِ عليها في حركاتها وسكناتها. فمثلاً: إذا فَرِغَ العبدُ من صلاةِ الصُبْح، ينبغي أن يُفرغَ قلبَه ساعةً لمشارطةِ نفسهِ

فيقولُ للنفس: ماليَ بضاعة إلا العُمُر، فإذا فَنِيَ مني رأس المال وقعَ اليأسُ من التجارةِ وطلبِ الربح. فليقُل أحدُنا الآنَ قبلَ الموت: يا نفس، اجتهدي اليومَ في أن تعمُري خِزانتكِ ولا تدعيها فارغة، ولا تَميلي إلى اليأسِ والدَعَةِ والاستراحة فيفوتكِ من درجاتِ عليينَ ما يُدْرِكه غيرَكِ المقامُ الثاني: المراقبة:

إذا أوصى الإنسانُ نفسَهُ وشَرَطَ عليها، لم يبقَ إلا المراقبة لها وملاحظتها وفي الحديثِ الصحيح في تفسيرِ الإحسان، لما سُئِلَ عنهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((أنْ تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراك)). فمراقبة العبد نفسَه في الطاعة هو أن يكونُ مخلصاً فيه! ا، ومراقبته في المعصيةِ تكونُ بالتوبةِ والندمِ والإقلاع، ومراقبته في المباح تكونُ بمراعاةِ الأدب والشكرِ على النعيم، وكلُّ ذلك لا يخلو من المراقبة.

المقام الثالث: المحاسبةُ بعدَ العمل:

اعلم أن العبدَ كما ينبغي أن يكونَ له وقتٌ في أولِ النهار يشارطُ فيهِ نفسه، كذلك ينبغي أن يكونَ له ساعةٌ يطالبُ فيهِ نفسه في آخرِ النهار ويحاسبُها على جميعِ ما كانَ منها، كما يفعلُ التُجّار في الدنيا معَ الشُركاءِ في آخرِ كل سنةٍ أو شهرٍ أو يوم.

المقام الرابع: معاقبةُ النفسِ على تقصيرِها:

اعلم أن العبدَ إذا حاسبَ نفسهُ فرأى منها تقصيراً، أو فعلَتْ شيئاً من المعاصي، فلا ينبغي أن يهملَها، فإنه يَسْهُلُ عليهِ حينئذٍ مقارفةُ الذنوب ويعسرُ عليه فِطامُها، بل ينبغي أن يعاقبها عقوبةً مباحة، كما يعاقبُ أهلَهُ وأولادَه. وكما رويَ عن عمر رضي الله عنه: أنه خَرجَ إلى حائطٍ له ثم رَجعَ وقد صلى الناسُ العصرَ، فقال: إنما خرجتُ إلى حائطي ورَجعتُ وقد صلى الناسُ العصرَ، حائطي صدقةٌ على المساكين.

المقام الخامس: المجاهدة:

إذا حاسبَ الإنسانُ نفسَه، فينبغي إذا رآها قد قارفت معصيةً أن يُعاقبَها كما سبق، فإن رآها تتوانى للكسلِ في شيءٍ من الفضائلِ أو وِرد من الأوراد، فينبغي أن يؤدبَها بتثقيلِ الأورادِ عليها، كما وردَ عن ابنِ عمرَ رضي الله عنه، أنه إذا فاتته صلاةٌ في جماعةٍ فأحيا الليلَ كلَّه! ُ تِلكَ الليلة، فهوَ هُنا يجاهدُها ويُكرِهُهَا ما استطاع.

المقام السادس والأخير: معاتبةُ النفسِ وتوبيخُها:

قال أنس رضي الله عنه: سمعتُ عمرَ بن الخطابِ رضي الله عنه، وقد دخلَ حائطاً، وبيني وبينه جدار، يقول: عمرُ بن الخطاب أميرُ المؤمنين!! بخٍ بخ، واللهِ لتتقينَ الله يا ابن الخطاب أو ليُعذبنَّك!.

أخي الحبيب: اعلم أن أعدى عدوٍ لكَ نفسُكَ التي بين جنبيك، وقد خُلِقتْ أمارةً بالسوءِ ميالةً إلى الشرورِ، وقد أُمرتَ بتقويمها وتزيكتها وفطامها عن موارِدِها، وأن تقودَها بسلاسلِ القهْرِ إلى عبادةِ ربِها، فإن أنتَ أهملتها ضلّتْ وشَرِدتْ، وإن لزمتَها بالتوبيخِ رَجونا أن تصيرَ مُطمئنة، فلا تغفلنّ عن تذكيرِها.

أخي الحبيب: كم صلاةٍ أضعتَها؟ كم جُمُعَةٍ تهاونتَ بها؟ كم صدقةٍ بَخِلتَ بها؟ كم معروفٍ تكاسلتَ عنه؟ كم منكرٍ سكتَّ عليه؟ كم نظرةٍ محرمةٍ أصبتَها؟ كم كلمةٍ فاحشةٍ أطلقتها؟ كم أغضبتَ والديك ولم ترضِهِما؟ كم قسوتَ على ضعيفٍ ولم ترحمه؟ كم من الناسِ ظلمتَه؟ كم وكم ... ؟

إنا لنفرحُ بالأيامِ نقطعُها ... وكلَّ يومٍ يُدني من الأجلِ

فاعمل لنفسِكَ قبلَ الموتِ مجتهداً ... فإنما الربحُ والخسرانُ في العملِ

هذا والله تعالى أعلى وأعلم وأحكم، وصلى الله وسلمَ وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبه أجمعين.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير