وأما الساسة والأمراء فلسان حالهم: ما أردنا إلا الإحسان بتنحية الشرع المنزل عن الحكم وقصره على الشعائر التعبدية!!!، فلا بديل عن الدولة المدنية اللادينية، في ضوء المستجدات التي طرأت على العالم بعد سيطرة العلمانية على مقاليد الحكم في معظم أرجاء الدنيا بدءا من الجمهورية الفرنسية: جمهورية: الإخاء والمساواة والحرية، التي تسعى جاهدة إلى إذابة كل الفوارق بين رعاياها، فيصير البشر كتلة هلامية لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، ولا تدين بالولاء إلا لـ: "التراب الوطني" الذي تطأه الأقدام ليل نهار!!!، مع أن تلك العلمانية تتشح، وقت اللزوم كما يقال عندنا في مصر، بوشاح الدين، ففرنسا الكاثوليكية، وإن كانت ملحدة في على مستوى الأفراد، إلا أنها متدينة على مستوى الجماعة، فالأفراد علمانيون، والدولة دينية تتستر برداء الديمقراطية، في مفارقة عجيبة، وقل مثل ذلك في أمريكا الإنجيلية التي تتشح هي الأخرى بوشاح الدين لشحذ همم جيوشها على غزو بلاد الإسلام، العدو الأول لمشروعها العالمي، فالإنجيل يقرأ في أرروقة البيت الأبيض، والصلبان ترسم على مصاحف المسلمين في مساجد العراق، ويتخذ الكتاب العزيز غرضا لرصاص أبناء العم سام، في صليبية مقيتة لا تختلف عن صليبية ريتشارد وأحلافه، إن لم تزد عليها جهلا وتعصبا وتدميرا إذ لديها من أسلحة الدمار الشامل وقاذفات البي 52 ما لم يكن على أيام الحملات الصليبية الأولى!!!.
فالعالم متدين، وإن أخفى ذلك، وأمراء المسلمين يرون الدولة اللادينية: خيارا استراتيجيا مداهنة لشذاذ الافاق من بين يهود، وعباد الصلبان والأوثان، تماما كما يرون السلام مع الدولة العبرية اللقيطة خيارا استراتيجيا!!!. . فالبداية: طريقة فاسدة تعارض الطريقة النبوية الحكمية.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعا من السياسات الجائرة من أخذ الأموال لا يجوز أخذها، وعقوبات على الجرائم لا تجوز لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله، لا رياسة نفوسهم، وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع، والقريب والبعيد، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله - لما احتاجوا إلى المكوس الموضوعة، ولا إلى العقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين، كما كان الخلفاء الراشدون، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم". اهـ
فلو جبوا الزكاة لما احتاجوا إلى جبي المكوس والضرائب، ولو أقاموا العدل الذي شرعه الله، عز وجل، لما احتاجوا إلى أطقم الحراسة الشخصية التي تجعل مجرد التفكير في الاقتراب من مواكبهم مغامرة تنتهي غالبا بتصفية صاحبها!!!.
و: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
و: (لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ).
ويبقى الإشكال عند كل تلك الطوائف: تقديم العقل والذوق على النقل، فكل يزعم المصلحة الدينية أو الدنيوية في طريقته، ويعرض عن طريقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولسان حاله:
"استجهال السابقين الأولين واستبلاههم واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنزلة الصالحين من العامة؛ لم يتبحروا في حقائق العلم ولم يتفطنوا لدقائقه بينما الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله". اهـ بتصرف من "الفتوى الحموية الكبرى".
فمتكلمو زماننا ممن خاضوا في الغيب بعقلوهم الفاسدة خير من السلف أهل القرون المفضلة.
وعباد زماننا ممن وقعوا في صنوف من البدع والشركيات خير من عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، وطبقته من عباد الصحابة، رضي الله عنهم، ومن جاء بعدهم ممن سار على طريقتهم.
وفقهاء زماننا ممن لا يعرفون إلا قول المذهب، إن كانوا يحفظونه أصلا، ولا يقدرون على إقامة حجة نقلية صحيحة عليه، خير من عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، وطبقته من مجتهدي الصحابة، رضي الله عنهم، ومن سار على طريقتهم.
وحكام زماننا ملوك الطوائف الجدد الذين لا يملكون من الأرض إلا رقعا متناثرة، يحكمونها بأمر ساكن البيت الأبيض، خير من عمر، رضي الله عنه، الذي حكم بأمر الله، فألقت إليه الدنيا بمقاليدها، وألقى إليه كسرى وقيصر بكنوزهما، وهو يتوسد التراب في ثوب مرقع!!!!.
والله أعلى وأعلم.