ولقد اعتنى كثير من أهل العلم ممن اعتنى بجمع أقوال أئمة الحديث - بجمع أقوال المحدثين في الرواة بالجرح والتعديل في دواوين جامعة، كمثل «تهذيب الكمال» وفروعه، فصار الآن من اليسير جدًا على الباحث أن يقف على أقوال أئمة الحديث في الرواة.
ولكن ذلك التيسير يفتقد الباحث عن أقوال أئمة الحديث المتعلقة بالحكم على الروايات بالتصحيح والتعليل ذلك أن أقوال أئمة الحديث في باب العلة لم تنل حظها من الجمع والترتيب كمثل ما نالت أقوالهم في الرجال بالتجريح والتعديل على الرغم من أن كلامهم في علل الحديث أدق وأغمض من كلامهم في الرجال.
وعلى الرغم من كثرة الفهارس التى وضعت لأطراف الأحاديث وتنوعها، إلا أنها ما زالت عاجزة عن تيسير الوقوف على أقوال أئمة الحديث في باب العلة؛ ذلك لأن أحكام أئمة الحديث كثيرًا ما تجيء بعبارات مجملة أو مبهمة، فكثيرًا ما يقولون مثلاً: «فلان روى حديثًا منكرًا» ولا يسمون ذلك الحديث، أو «روى عن فلانٍ حديثًا منكرًا»، ونحو هذه العبارات المجملة، وهى من الأهمية بمكان، ولا يمكن لأي مفهرس على أطراف الأحاديث أن يستخرجها، وإنما يمكن ذلك لمن له اعتناء بهذا الباب، وشدة تفتيش وتنقيب عن هذه الأحاديث؛ ليتم بعد ذلك تنزيل الأحكام عليها.
ولصعوبة الوقوف على أقوال أهل العلم على الأحاديث قنع بعض الباحثين بأقوال بعض أهل العلم الذين خرجوا الحديث وحكموا عليه عقب تخريجه، ولم يتوسعوا في البحث عن أقوال الأئمة الآخرين الذين تناثرت أقوالهم في كتب التواريخ والرجال وكتب السؤالات والمسائل كالإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأمثالهما.
بل إن بعضهم يتجاهل أحكام العلماء الذين خرجوا الحديث حاكمين عليه، ثم يستعيض عن ذلك إما بأحكامه هو على الأسانيد حكمًا ظاهريًا بناء على ظاهر إسناده،
وإما اعتمادًا على أحكام بعض أهل العلم المتأخرين الذين عرفوا بالتساهل في الحكم على الأحاديث وعدم تتبع عللها وأسانيدها.
ومن أعجب ما رأيته، رسالة ماجستير لبعض الطلبة في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، موضوعها «روايات الإمام البخاري في غير الصحيح، دراسة ونقدًا»، وقد لاحظت أن هذا الطالب، رغم تصريحه في مقدمة الرسالة بأنه حريص كل الحرص على تتبع أقوال أهل العلم على الأحاديث والرجال، إذا به في الرسالة لا تكاد تلمس هذا، فهو قليلاً ما يذكر أحكام أهل العلم على الأحاديث.
وغالب الأحكام التى ذكرها، إما أنها لمن خرج الحديث كالترمذي والحاكم، أو لبعض من هو متساهل في التصحيح كالهيثمي في «مجمع الزوائد»، فكل من له دراية بأحكام الهيثمي يلمس فيها التساهل، فضلاً عن كونه قلَّما يحكم حكمًا مفيدًا في حال الحديث، حيث إنه غالبًا ما يحكم على رواته فحسب بقوله - مثلاً -: «رجاله ثقات» أو نحو ذلك، وهذا حكم على الراوي، لا على الراوية، إذ قد تكون الراوية مشتملة - مع ذلك - على علة قادحة من سقط، أو شذوذ، أو غير ذلك.
وأما الرجال، فهو لا يكاد يتعدي حكم الحافظ ابن حجر رحمه الله في «التقريب»، والحافظ ابن حجر - على إمامته وعلمه - كيف يكتفي الباحث بقوله، ثم يوهم في المقدمة أنه «اجتهد في تتبع أقوال العلماء» أليس هذا من التشبع بما لم يعط؟!
يقول في المقدمة:
«وأبنت عن درجة كل خبر من حيث الصحة والضعف، واجتهدت - أولاً - في تتبع أقوال العلماء والأئمة على الحديث، ثم ذكرت ما قيل في رواته ممن تُكُلم فيهم، مسترشدًا بأقوال جهابذة الحديث ونقاده؛ فإنهم القدوة في هذا الباب، والمعول عليهم فيه، وهو أمر تجدر العناية به أكثر من غيره؛ لأنه الطريق الصحيح الذي لا معدل عنه لإثبات الأدلة الشرعية».
وهذا الكلام - مع كونه حقًا في نفسه - إنما هو ادعاء من حيث تحقيقه وتطبيقه في الرسالة، ويكفي لمعرفة ما في هذا الكلام من ادعاء، أنه هو نفسه كثيرًا ما يحذف حكم الإمام البخاري على الراوية التى اختارها لرسالته هذه، فبينما نجد الباحث يذكر الراوية من كتب البخاري - لا سيما «التاريخيين» - مجردة عن حكم البخاري عليها، إذا بالناظر في موضعها عند البخاري يجد البخاري نفسه قد نص على علة الحديث، ولكن الباحث حذف حكمه، ثم أخذ يحكم هو على الراوية بحكمه الخاص المبني على النظرة السطحية في إسنادها من غير استفادة من النظرة المتعمقة للإمام البخاري، والتى تمخض عنها هذا
¥