الحكم المحكم، الذي لم يعرج عليه الباحث، ولم يلتفت إليه.
وإن من مظاهر عدم وفائه بهذا الذي وعد به: أنه قد نص في مقدمة رسالته على عدة قواعد، لم يسبق إليها، ولا له فيها سلف، فكيف يدعي من يبتدع في القواعد والأصول، إنه متبع في المسائل والفروع؟!
وهذه القواعد، قد مثل لبعضها بأمثلة، يظهر من تتبعها أن الباحث لا يعرف أحكام أهل العلم والنقد عليها على الرغم من كثرتها، حيث بنى أحكامه عليها بعيدًا عن أقوال أهل العلم، وبمنأًى عن أحكامهم.
وأرى الاكتفاء بهذه الأمثلة التى ذكرها لهذه القواعد، فإن فيها خير دليل على عدم اكتراثه واهتمامه بأحكام أهل العلم، وعلى عدم صدقه في ادعائه أنه اجتهد في تتبعها والتفتيش عنها.
فمن قواعده التى ابتدعها من نفسه، قال:
"إذا وجدت في الإسناد راويًا وثقة بعضهم ـ حتى وإن ذكره ابن حبان وحده في الثقات ـ، وقال عنه بعضهم: مجهول، اعتبرت الإسناد حسنًا".
وهذه قاعدة من كيسه، لا تعرف عن أحد من أهل العلم؛ فإن ابن حبان معروف بتوثيق المجاهيل، فتوثيقه لا يتعارض مع تجهيل غيره، بل يؤكد كون الراوي مجهولاً، وإنه من المجاهيل الذين ملأ ابن حبان كتابه بهم، بل وصرح في بعضهم بأنه لا يعرفه، ولا يعرف أباه.
وقد قال الإمام ابن عبد الهادى في كتابه "الصارم المنكي": "وقد علم؛ أن ابن حبان ذكر في هذا الكتاب الذي جمعه في الثقات عددًا كثيرًا وخلقًا عظيمًا من المجهولين، الذين لا يعرف هو ولا غيره أحوالهم، وقد صرح ابن حبان بذلك في غير موضوع من هذا الكتاب".
ثم ذكر بعض المواضع التى أشرت إليها في التعليق السابق عن كتاب "الثقات" لابن حبان، ثم قال:
"وقد ذكر ابن حبان في هذا الكتاب خلقًا كثيرًا من هذا النمط، وطريقته فيه: أنه يذكر من لم يعرفه بجرح وإن كان مجهولاً لم يعرف حاله، وينبغي أن يتنبه لهذا، ويعرف أن توثيق ابن حبان للرجل بمجرد ذكره في هذا الكتاب من أدنى درجات التوثيق" أ هـ.
وقال الحافظ ابن حجر في "اللسان" (1/ 14):
"وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على
العدالة إلى أن يتبين جرحه؛ مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في "كتاب الثقات" الذي ألفه؛ فإنه يذكر خلقًا ممن ينص أبو حاتم وغيره على أنهم مجهولون" أ هـ.
والعجب، أن الباحث قال بعقب ذلك:
"مقتديًا في ذلك بالإمام الترمذي"!
وهذه طامة أخرى؛ فإن الإمام الترمذي حيث يحسن بعض أحاديث مجهولي الحال
أو المستورين، إنما يحسنها حيث تعضدها شواهد تؤيد معناها، لا أنه يحسن أحاديث هؤلاء مطلقًا وإن كانت مما تفردوا به.
ومع ذلك؛ فهل وفى الباحث بهذا الذي اشترطه على نفسه، أم هى خطب منبرية،
لا علاقة بينها وبين ما في صلب الرسالة؟!
إن الباحث قد أشار إلى خمسة أحاديث، ذكر أنه أعمل فيها هذه القاعدة، سأكتفى بالنظر في حديثين فقط منها، لننظر: هل صدق الباحث فيما وعد به، أم أخلف وعده؟!
فالحديث الأول، وهو برقم (1775) عنده:
وهو حديث: ركانة، أنه صارع النبى صلى الله عليه وسلم وأنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس".
فهذا الحديث؛ لم يحسن الترمذي إسناده، بل صرح بضعفه، وهو إن كان حسن شيئًا في الحديث، فهو راجع إلى المتن ـ بما أنضم إليه من شواهد ــ لا إلى السند.
فقد قال الترمذي (17/ 84):
"هذا حديث حسن غريب، وإسناده ليس بالقائم، ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني،
ولا ابن ركانة".
فأنت ترى أن الترمذي لا يحكم على السند بالحسن، فكيف يفهم من صنيعه أن المجهول حديثه حسن عند الترمذي إن وثقه موثق، وإن كان توثيقه من مثل ابن حبان
الذي عرف بتوثيق المجاهيل؟!
بل كل من عنده مسحة من علم، يعلم حق العلم، أن الترمذي لا يقصد بالتحسين ها هنا الإسناد.
أولاً: لأنه صرح بأن الإسناد ليس بالقائم.
ثانيًا: أنه صرح بأنه لا يعرف راويين من رواته.
فهل يتصور من عنده ولو قليل من العلم، أن الترمذي يحكم على هذا السند بالحسن، وهو يعلم أنه مشتمل على مجهولين، وقد صرح هو بنفسه بضعف السند.
إن العلماء الذين قالوا: إن الترمذي يحسن رواية المستور ونحوه، إنما قصدوا أنه يحسنها بالشواهد والمتابعات التى تجئ لها، لا أنها عنده حسنة بانفرادها، هذا ما لم يقله أحد من أهل العلم نعلمه.
¥